إسبانيا في مواجهة إسرائيل: تحول استراتيجي يرسم ملامح سياسة أوروبية جديدة لدعم فلسطين

116

كتبت: هدير البحيري

بينما تتصاعد أصداء الحرب على غزة، تصدرت إسبانيا المشهد الأوروبي كصوت صريح يدافع عن الحقوق الفلسطينية ويطالب بوقف الإبادة الجماعية. الحكومة الإسبانية، والشعب على حد سواء، لم يكتفوا بالمواقف الرمزية، بل اتخذوا خطوات ملموسة على الصعيد السياسي والاقتصادي، لتضع مدريد نفسها في قلب النزاع الإقليمي والدولي.
في هذا الإطار، ندد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز بـ”الإرهاب بكل أشكاله” بمناسبة مرور سنتين على عملية طوفان الأقصى، وحض نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على وضع حد للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني.
وكتب سانشيز في منشور على حسابه في منصة إكس: “تصادف اليوم الذكرى الثانية للهجمات المروعة التي ارتكبتها حركة حماس، وهي مناسبة للتأكيد على إدانتنا الشديدة للإرهاب بكل أشكاله وللمطالبة بالإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين ولحض نتنياهو على وضع حد للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني وفتح ممر إنساني”.
وفي الشارع، شهدت إسبانيا أكبر مظاهرات في تاريخها الحديث، حيث خرج نحو مليوني شخص في مختلف المدن، احتجاجًا على “الإبادة الجماعية في غزة” والمطالبة بوقف التعاون العسكري والاقتصادي مع إسرائيل.
وشارك الطلاب أيضًا في احتجاجات متواصلة ضد الهجوم على “أسطول الحرية” لكسر الحصار عن غزة.
وأكد المنظمون أن هذه التحركات هي الأكبر منذ اندلاع الحرب قبل عامين، وتعكس غضبًا شعبيًا من تواطؤ الحكومات الأوروبية مع السياسات الإسرائيلية، إلى جانب احتجاجات على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المحلية.
على المستوى السياسي، تصدرت إسبانيا الدول الأوروبية التي اتخذت مواقف حازمة تجاه إسرائيل، معلنةً اعترافها الرسمي بدولة فلسطين في مايو 2024، وفرضت حظرًا شاملًا على تصدير الأسلحة إليها، ومنعت دخول السفن المحملة بالوقود أو المعدات العسكرية إلى موانئها. كما دعت مدريد الاتحاد الأوروبي لربط شراكاته مع تل أبيب باحترام حقوق الإنسان، في خطوة أثارت توترًا دبلوماسيًا مع تل أبيب.
وانضمت دول أخرى إلى حملة الضغط، منها إيرلندا والنرويج وبلجيكا وفرنسا وهولندا، التي اتخذت إجراءات شملت تجميد الشراكات وفرض قيود اقتصادية ومنع دخول مسؤولين إسرائيليين متطرفين، فيما طالبت الحكومات والشعوب بوقف بيع الأسلحة وإجراء تحقيق دولي في استهداف المدنيين.
أما إيطاليا، فقد دعت إسرائيل مرارًا لوقف هجماتها وفتح المعابر الإنسانية لضمان وصول الغذاء والدواء، مؤكدةً أن الحرب لا يجب أن تستمر على حساب المدنيين.
وعلى المستوى الإقليمي، أعادت منظمة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (CELAC) التأكيد على دعمها الكامل لحقوق الشعب الفلسطيني، مطالبة المجتمع الدولي بفرض عقوبات على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في الهجمات على المدنيين.
وتشير استطلاعات حديثة إلى أن أكثر من 60% من المواطنين في إسبانيا وألمانيا وفرنسا يطالبون حكوماتهم بتقليص التعاون مع إسرائيل، بينما أظهر استطلاع لمعهد “إلكانو الملكي” أن 82% من الإسبان يعتبرون ما يحدث في غزة “إبادة جماعية”.
وارتفع عدد الدول التي تعترف رسميًا بدولة فلسطين إلى أكثر من 150 دولة حول العالم.
وفي هذا السياق، قال رئيس وحدة الدراسات الأوروبية والاستراتيجية بمركز العرب، الدكتور هاني الجمل، في حديث خاص لـ”نافذة الشرق” إن تصاعد الموقف الإسباني الداعم لفلسطين يعكس تحولًا استراتيجيًا داخل أوروبا نحو قدر أكبر من الاستقلال السياسي عن واشنطن، مشيرًا إلى أن مدريد تطرح نموذجًا لسياسة أكثر توازنًا بين المبادئ الإنسانية والمصالح الاستراتيجية.
وأوضح الجمل أن حكومة اليسار في مدريد تعاملت مع الملف الفلسطيني كفرصة لإعادة تموضعها سياسيًا داخل أوروبا، في وقت يعيش فيه اليسار الأوروبي أزمة حقيقية أمام صعود التيارات اليمينية، وهو ما دفعها إلى تبني مواقف أكثر جرأة في السياسة الخارجية.
وأضاف الجمل أن إسبانيا تمتلك جذورًا عربية وإسلامية تاريخية، إلى جانب علاقات وثيقة مع دول المغرب العربي والمشرق، وهو ما جعلها أقرب وجدانيًا وسياسيًا إلى القضايا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
كما أن وجودها في موقع قيادي داخل الاتحاد الأوروبي عند اندلاع الأزمة جعل من الضروري أن تتحرك كصوت أوروبي فاعل.
وعلى الصعيد الاقتصادي، لفت الجمل إلى أن إسبانيا، رغم تصنيفها ضمن الاقتصادات المتوسطة في أوروبا، تسعى إلى تعزيز حضورها في العالم العربي باعتباره سوقًا واعدًا، سواء في الاستثمارات السياحية والصناعية أو في مجال الطاقة الذي تعتمد فيه جزئيًا على الجزائر.
وأوضح أن مدريد تستفيد من علاقاتها المتنامية مع دول مثل مصر والسعودية التي تشهد استثمارات متبادلة واسعة، بما في ذلك في القطاع الرياضي.
وقال الجمل إن إسبانيا تسعى إلى أن تكون بوابة عربية لأوروبا ومركزًا لجذب الاستثمارات العربية بعيدًا عن الولايات المتحدة، خاصة في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى التي يشهدها الشرق الأوسط، ومشروعات الربط التجاري مثل مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
وفي السياق ذاته، قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون العربية، طلعت طه، في حديث خاص لـ”نافذة الشرق” إن الموقف الإسباني الداعم للقضية الفلسطينية ليس وليد اللحظة، بل امتداد لمسار طويل من الدعم السياسي والاقتصادي والاجتماعي للشعب الفلسطيني.
وأوضح طه أن اعتراف إسبانيا بدولة فلسطين جاء لتجسيد هذا النهج الثابت، مشيرًا إلى أن ملك إسبانيا وصف الخطوة بأنها “ضرورية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط”.
وأضاف أن مدريد اتخذت على مدار العقود الماضية مواقف واضحة ضد الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، وأدانت الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان، مما يعكس التزامها بالقانون الدولي ودعمها للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
وأشار طه إلى أن زيارة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز إلى مصر ومعبر رفح شكلت محطة بارزة في الموقف الإسباني، حيث أكد دعمه لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة وانتقد منع إسرائيل مرور الغذاء والدواء إلى المدنيين. كما رافق سانشيز خلال الزيارة رئيس وزراء النرويج، الذي أعلن أن بلاده ستعترف بالدولة الفلسطينية حتى في حال تردد الاتحاد الأوروبي، ما يعكس تنامي التنسيق الأوروبي حول هذا الملف.
واختتم طه حديثه بالقول إن مدريد باتت اليوم أقرب إلى الموقف العربي تجاه القضية الفلسطينية، مشيرًا إلى أن مصالحها السياسية والاقتصادية أصبحت مرتبطة أكثر بالاتحاد الأوروبي من الولايات المتحدة أو إسرائيل، مما جعلها لاعبًا مؤثرًا في تعزيز التقارب العربي الأوروبي بشأن فلسطين.
ويعود فهم دوافع الموقف الإسباني الصارم إلى التاريخ، فالعلاقات الرسمية مع إسرائيل لم تبدأ إلا عام 1986.
قبل ذلك، رفضت إسبانيا الاعتراف بإسرائيل خلال عهد الجنرال فرانسيسكو فرانكو (1939-1975)، مفضلة إقامة تحالفات مع الدول العربية لدعم مصالحها السياسية والاقتصادية، بما في ذلك قضايا النفط والصحراء، وهو ما ساعد على تعزيز مكانة إسبانيا دوليًا وتسهيل قبولها في الأمم المتحدة.
وفي مرحلة الانتقال بعد وفاة فرانكو، استمر احترام الإسبان للشعب الفلسطيني، كما تجلى في زيارة ياسر عرفات إلى مدريد عام 1979.
واعترفت الحكومة الاشتراكية بقيادة فيليبي غونزاليس بإسرائيل عام 1986، ضمن شروط الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية، فيما منحت الحكومة المحافظة بقيادة ماريانو راخوي فلسطين صفة مراقب غير عضو في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012.

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.