الأثر النفسي للمجازر الإسرائيلية على أطفال غزة: جيل مهدد بتدمير معنوي طويل الأمد

14

منذ بدء العدوان على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، يعاني أكثر من مليوني شخص، غالبيتهم أطفال، من آثار نفسية عميقة وغير مسبوقة. فقد أدت العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى استشهاد أكثر من 42 ألف شخص، بينهم ما يزيد عن 16 ألف طفل، وتدمير أكثر من 360 ألف مبنى، شملت منازل ومساجد وكنائس ومدارس ومستشفيات. ومع انشغال العالم بإعادة الإعمار، التي قدرت الأمم المتحدة تكلفتها بمليارات الدولارات، هناك جرح خفي أكبر يعاني منه أطفال غزة هو الضرر النفسي الذي سيظل يرافقهم لسنوات طويلة وربما مدى الحياة.

أطفال غزة ضحايا مجازر مروعة

وثقت منظمات حقوقية مجازر جماعية ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين، كان الأطفال أبرز ضحاياها. في شمال غزة، قُتلت عائلات بأكملها تحت الأنقاض، وفي خان يونس، وثّقت تقارير دولية حوادث قصف استهدفت تجمعات النازحين، ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا في دقائق. مشاهد الدماء والجثث والأشلاء التي أصبحت جزءًا من الحياة اليومية في غزة تركت أثرًا نفسيًا مدمرًا على الأطفال، الذين يعيشون في حالة من الرعب المستمر.

وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية، فإن أكثر من 90% من أطفال غزة يعانون من اضطرابات نفسية تتراوح بين التوتر الحاد، والاكتئاب، و”اضطراب كرب ما بعد الصدمة”، فيما يعاني آخرون من صدمات متكررة نتيجة فقدان أفراد عائلاتهم أو تشريدهم.

أثر الحرب على الصحة النفسية للأطفال

تعاني غالبية أطفال غزة من صدمة نفسية مزمنة نتيجة مشاهد العنف وفقدان أحبائهم. ويظهر ذلك في أشكال مختلفة، منها التبول اللاإرادي، نوبات الفزع والخوف من الأصوات المرتفعة، سلوك عدواني تجاه الآخرين، انعدام القدرة على النوم بسبب الكوابيس.

وبحسب تصريحات للدكتور محمد بلعاوي، اختصاصي الطب النفسي للأطفال في غزة، فإن “التعرض المستمر للقصف والدمار يولد حالة نفسية معقدة لا يمكن وصفها باضطراب كرب ما بعد الصدمة، لأن الصدمة في غزة لا تنتهي. إنها مستمرة ومتكررة يوميًا، وهذا يضع الأطفال في حالة استنزاف نفسي دائم”.

الأثر طويل الأمد على النمو النفسي والاجتماعي

يشير علماء النفس إلى أن الأطفال الذين يتعرضون لصدمات نفسية في صغرهم قد يعانون من آثار طويلة الأمد تؤثر على شخصياتهم وسلوكياتهم في المستقبل. وفقًا لنظرية “هرم ماسلو”، فإن الإنسان يحتاج إلى أساسيات مثل الأمان والانتماء لتحقيق نمو نفسي صحي. وفي غزة، تُحرم الأجيال الشابة من هذه الاحتياجات الأساسية.

وهناك أيضا فقدان الأمان بسبب القصف المستمر يجعل الأطفال يشعرون بعدم وجود أي مكان آمن، غياب الانتماء بحيث يتم فقدان المنازل والأحياء يعزز شعورهم بالتشرد والضياع، بالإضافة إلى انهيار العلاقات الأسرية، حيث تشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إلى أن أكثر من 17,000 طفل فقدوا عائلاتهم بالكامل وأصبحوا بدون رعاية مباشرة.

التحديات النفسية للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة

تزداد معاناة الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، لا سيما المصابين بالتوحد، في ظل الحرب. فبحسب تقديرات منظمات محلية، هناك ما بين 3,000 إلى 5,000 طفل مصاب بالتوحد في غزة، يعانون من صعوبة في التكيف مع بيئة الحرب.

الدكتورة سمر أبو شعبان، معالجة نفسية متخصصة في اضطرابات التوحد، تقول: “الأطفال المصابون بالتوحد يتأثرون بشكل مضاعف بالظروف المحيطة، فالضوضاء العالية مثل أصوات القصف تزيد من حساسيتهم، وتجعلهم أكثر عرضة لنوبات الهلع والانهيارات العصبية”.

جهود الدعم النفسي: محاولات لإعادة بناء النفوس

رغم صعوبة الظروف، تسعى بعض الجهات لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال في غزة، الأمانة العامة للصحة النفسية في مصر قد أرسلت فرقًا متخصصة لتقديم الدعم النفسي للجرحى والمصابين الفلسطينيين الذين يعالجون في المستشفيات المصرية. كما أطلقت خطًا ساخنًا لاستشارات الصحة النفسية.

كما أن الأونروا تواصل تقديم جلسات دعم نفسي للأطفال، بجانب المساعدات الإنسانية الأساسية. منظمة أطباء بلا حدود قد وفرت أكثر من 8,800 جلسة دعم نفسي واجتماعي منذ بدء الحرب. كما توجد مبادرات مجتمعية مثل “نور الشفاء” التي تهدف إلى علاج الصدمات باستخدام الفنون والتعبير الحر، ومبادرة “أحفاد الزيتون” التي تعمل على تأهيل الأطفال نفسيًا وتعليميًا في مصر.

رأي خبراء الصحة النفسية

يرى الدكتور حسن المدهون، أستاذ علم النفس في جامعة الأزهر بغزة، أن “ما يمر به أطفال غزة ليس مجرد أزمة نفسية مؤقتة، بل هو كارثة إنسانية تحتاج إلى تدخل دولي عاجل. يجب أن يبدأ الدعم النفسي بالتزامن مع الجهود الإغاثية، وإلا فإننا أمام جيل قد ينمو ليصبح مليئًا بالغضب والإحباط والكراهية”.

أما الدكتور إبراهيم السوافيري، المعالج النفسي للأطفال، فيؤكد أن “الدمار النفسي الذي يعانيه أطفال غزة يتطلب برامج طويلة الأمد تشمل العلاج النفسي الفردي والجماعي، إضافة إلى توفير بيئات آمنة ومستقرة بعيدًا عن الحرب”.

أطفال غزة: دائرة مستمرة من العنف

رغم الجهود المبذولة لوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار، لا تزال التوقعات بشأن المستقبل قاتمة. استمرار غياب الحلول السياسية قد يؤدي إلى تجدد الصراع، مما يعني أن أطفال غزة سيظلون عالقين في دائرة مستمرة من العنف والصدمات.

يتطلب الوضع في غزة أكثر من مجرد مساعدات إنسانية وإغاثية. فالأطفال يحتاجون إلى اهتمام خاص ودعم نفسي مكثف لإعادة تأهيلهم نفسيًا واجتماعيًا. إن تقاعس المجتمع الدولي عن التعامل مع هذه الأزمة النفسية قد يخلق أجيالًا جديدة من الشباب المحبط والغاضب، الذين يرون في العالم مصدر تهديد دائم وليس مكانًا آمنًا للعيش.

الصحفية/ رنا سلام

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.