الإمارات تستضيف قمة أذرية أرمينية: خطوة جديدة في طريق السلام
هدير البحيري
في سابقة دبلوماسية لافتة، استضافت العاصمة الإماراتية أبوظبي، قمة جمعت رئيس أذربيجان إلهام علييف ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، في خطوة جديدة لإحياء مسار السلام بين البلدين، اللذين يتنازعان منذ عقود على إقليم ناغورني قره باغ.
أجواء إيجابية رغم غياب التقدم الملموس
وأفادت حكومتا البلدين في بيانين منفصلين أن الجانبان عقدا محادثات “جوهرية وبناءة”، تناولت عدة قضايا حساسة، أبرزها ترسيم الحدود المشتركة، التي تمتد لنحو ألف كيلومتر، وتدابير بناء الثقة بين الجانبين. كما اتفق الطرفان على مواصلة الحوار الثنائي باعتباره “الصيغة الأكثر فاعلية” لدفع عملية التطبيع.
ورغم عدم الإعلان عن تقدم ملموس، اعتُبرت هذه القمة “الأكثر جدية” ضمن سلسلة محاولات متقطعة لإنهاء النزاع، الذي اندلع مطلع التسعينيات، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وأودى بحياة أكثر من 30 ألف شخص، وأدى إلى نزوح جماعي متبادل بين الأرمن والأذريين.
وكان الجانبان قد أعلنا في مارس الماضي التوصل إلى مسودة اتفاق سلام، إلا أن توقيع الاتفاق لا يزال معلقًا بسبب مطالب متبادلة، أبرزها طلب باكو من يريفان تعديل الدستور الأرميني، الذي يتضمن إشارات إلى “إعادة التوحيد” مع ناغورني قره باغ.
وتأتي قمة أبوظبي بعد نحو شهرين من آخر لقاء بين الجانبين في ألبانيا، وفي وقت أعرب فيه وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن أمله في “توقيع قريب” لاتفاق ينهي النزاع الممتد منذ ما يقرب من أربعة عقود.
دلالات الوساطة الإماراتية ودوافعها الاستراتيجية
وتعكس استضافة الإمارات لهذه القمة دلالات سياسية بالغة الأهمية، إذ تعزز من موقع أبوظبي كوسيط محايد وفاعل في إدارة النزاعات الإقليمية المعقدة، مستندة إلى شبكة علاقاتها المتوازنة مع مختلف الأطراف الدولية. كما تبرز منطقة القوقاز باعتبارها ساحة استراتيجية متنامية الأهمية في معادلات الأمن الإقليمي والطاقة والربط التجاري، وهو ما يمنح الإمارات فرصًا واعدة لتوسيع حضورها الدبلوماسي والاقتصادي في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية وتقاطعًا للمصالح.
أبوظبي تكسر الجمود وتراهن على التنمية
وفي هذا السياق، يرى المتخصص في الشؤون الآسيوية، إسلام شحته، أن الوساطة الإماراتية تسعى إلى كسر حالة الجمود، التي تطغى على المحادثات بين أرمينيا وأذربيجان، من خلال توفير منصة محايدة وآمنة للتفاوض بعيدًا عن الضغوط المباشرة للقوى الإقليمية والدولية.
وأشار شحته، في حديث خاص لـ”نافذة الشرق”، إلى أن أبوظبي تمتلك علاقات متوازنة مع موسكو وبروكسل وواشنطن وأنقرة، وهو ما يمنحها ميزة دبلوماسية نادرة لتمرير الرسائل وتقديم ضمانات سياسية تحظى بقبول الطرفين.
وأضاف شحته أن الوساطة الإماراتية لا تقتصر على الجوانب السياسية، بل تسعى أيضًا إلى دمج البعد التنموي في عملية التسوية، من خلال مبادرات لإعادة الإعمار وتشجيع التعاون الاقتصادي في المناطق الحدودية المتنازع عليها، بما من شأنه بناء الثقة بين الطرفين وتخفيف مسببات التوتر على المدى الطويل.
وأكد أن الإمارات تحقق من هذه المبادرة مكاسب متعددة سياسيًا واقتصاديًا؛ فمن ناحية تعزز من مكانتها كوسيط دولي موثوق وقادر على إدارة ملفات معقدة، ومن ناحية أخرى تكتسب نفوذًا إضافيًا في منطقة استراتيجية تربط أوروبا بآسيا.
كما أشار المتخصص في الشؤون الآسيوية إلى أن هذه التحركات تفتح الباب أمام فرص استثمار مستقبلية في مجالات الطاقة وإعادة الإعمار، وتُعزز من صورة الإمارات لدى شركائها الدوليين كداعم للاستقرار والتنمية في جنوب القوقاز.
جذور النزاع
وتعود جذور الصراع بين أرمينيا وأذربيجان إلى بدايات القرن العشرين، وتحديدًا بعد إعلان استقلال الدولتين عن الإمبراطورية الروسية يوم 28 مايو 1918، في أعقاب الثورة البلشفية. ومنذ لحظة الانفصال، دخل الطرفان في نزاعات إقليمية شرسة على مناطق حدودية متنازع عليها، كان أبرزها إقليم ناغورني قره باغ، الذي يُعد تاريخيًا منطقة ذات أغلبية أرمينية، لكنه يقع جغرافيًا ضمن أراضي أذربيجان.
بين عامي 1918 و1920، شهدت المنطقة مواجهات مسلحة متكررة، وسط اضطراب المشهد الإقليمي وتفكك الإمبراطوريات. لكن هذه الصراعات توقفت نسبيًا مع فرض الحكم السوفييتي على جنوب القوقاز عام 1922، حيث أدمج الاتحاد السوفييتي كلا من أرمينيا وأذربيجان ضمن جمهورياته، مانحًا قره باغ وضعًا خاصًا كإقليم يتمتع بالحكم الذاتي تحت السيادة الأذربيجانية، في محاولة منه لاحتواء التوترات العرقية، لكنها ظلت كامنة تحت السطح.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، عادت الخلافات إلى السطح بعنف، واندلع أحد أكثر النزاعات دموية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
فقد أدى إعلان سكان الإقليم، المدعومين من يريفان، الرغبة في الانفصال عن أذربيجان والانضمام إلى أرمينيا، إلى حرب شاملة بين البلدين، أسفرت عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص، ونزوح نحو مليون شخص من الأرمن والأذريين في موجات تهجير متبادل، ما أجج الاحتقان السياسي والإنساني بين الطرفين.
ورغم دخول العديد من القوى الدولية على خط الوساطة، لم تُفلح الجهود في إنهاء الصراع. فقد أُنشئت “مجموعة مينسك” في عام 1992 تحت رعاية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وتضم 17 دولة، بينها روسيا وفرنسا والولايات المتحدة كرؤساء مشاركين.
هدفت المجموعة إلى توفير إطار تفاوضي دائم لحل النزاع، لكنها عانت من انقسامات داخلية ومواقف متعارضة بين الدول الراعية، كما فقدت ثقة طرفي النزاع على مر السنوات، ما جعلها غير قادرة على الوصول إلى اتفاق شامل أو ضمان استقرار طويل الأمد.
على مدى العقود التالية، ظلت المنطقة تعاني من اشتباكات متقطعة، أبرزها حرب عام 2020 التي استعادت فيها أذربيجان أجزاء واسعة من قره باغ بدعم عسكري تركي، مقابل وساطة روسية لوقف إطلاق النار.
وفي ظل انشغال روسيا بحرب أوكرانيا وفتور الوساطة الغربية، تبرز قمة أبوظبي كمحاولة جادة لإعادة إحياء مسار السلام بين أرمينيا وأذربيجان.
ورغم تعقيدات المشهد، تمثل هذه الخطوة بارقة أمل في سد فراغ دبلوماسي طال أمده، وفتح آفاق جديدة لحلول تجمع بين المسار السياسي وأدوات التنمية، ما قد يضع أسسًا مختلفة لتسوية أكثر استدامة في جنوب القوقاز.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.