الفصائل العراقية بين صراع إيران وأمريكا.. واقعية حذرة أم هدوء ما قبل العاصفة؟ أستاذ العلوم السياسية يوضح (خاص)
كتب : إسلام ماجد
رغم الضربات الأمريكية الأخيرة، التي طالت منشآت نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، فإن العراق المجاور ظل ساكنًا على السطح، لكنه يغلي تحته على نار من الترقب والخشية. ففي بلد تتقاطع فيه المصالح والنفوذ بين واشنطن وطهران، وتنتشر فيه عشرات المليشيات المسلحة الموالية لإيران، كان يُنتظر رد فعل صاخب. لكن الذي حدث كان العكس تمامًا.
المليشيات العراقية ذات الولاء الإيراني اختارت التزام الهدوء، وهو موقف نادر أثار دهشة المتابعين وفضولهم؛ حيث تحولت هذه الفصائل من أدوات للمواجهة إلى قوى حاكمة، ذات مصالح اقتصادية وسياسية تجعلها أقل رغبة في إشعال فتيل حرب لا تُعرف نتائجها.
التحول اللافت في سلوك هذه المليشيات لا يمكن فهمه بمعزل عن الضربة القاصمة التي تلقتها قياداتها عام 2020، حين استهدفت غارة أمريكية قرب مطار بغداد القياديين البارزين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وهما من أبرز رموز التنسيق العسكري بين طهران والفصائل العراقية. ومنذ غيابهما، بدأ التغيير.
ورغم إصدار “كتائب حزب الله” العراقية بيانًا عقب الضربات الجوية الأمريكية، إلا أنه خلا من اللهجة التصعيدية، واكتفى بالإشارة إلى فشل بغداد في حماية مجالها الجوي، وهي لهجة أقرب إلى العتاب منها إلى التهديد.
تبدل الأولويات: من الحرب إلى الدولة
اللهيب المستتر تحت الرماد لم يخفت تمامًا، إذ إن الفصائل ما زالت في حالة ترقب، مستعدة للتحرك إذا ما اقتضى الأمر، لكنها في الوقت ذاته لا ترغب في الانخراط في حرب مفتوحة.
في موازاة ذلك، برز موقف المرجع الأعلى في النجف، السيد علي السيستاني، الذي دعا المجتمع الدولي إلى إيقاف الحرب، محذرًا من فوضى قد تضرب المنطقة كلها. وأشار بوضوح إلى ضرورة الابتعاد عن الصراعات الخارجية، وتجنب الانخراط في مواجهات لا تصب في صالح العراق.
هذا الموقف يعكس التوجه الثابت للمرجعية النجفية، التي طالما نأت بنفسها عن الدخول في المعادلات العسكرية للمحور الإيراني. فخطاب السيستاني السياسي يتسم بالحذر والدعوة إلى السلم، وهو ما يتناقض مع الخطاب العقائدي لبعض فصائل “الحشد الشعبي”، التي ترى في إيران الحاضن الأيديولوجي والسياسي لها.
فصائل كـ”منظمة بدر”، و”كتائب حزب الله”، و”العصائب”، تمتلك ترسانة من السلاح، وقدرات عسكرية واقتصادية تجعلها كيانات داخل الدولة، لا مجرد مجموعات خارجة عليها. بل إنها تحولت إلى مؤسسات تملك مصادر تمويل من الحكومة العراقية، ومشاريع اقتصادية متنوعة في كافة المجالات، من النفط إلى العقارات.
وتبدو “منظمة بدر”، بقيادة هادي العامري، الأكثر حضورًا في الساحة العراقية سياسيًا وعسكريًا، إذ تضم أكثر من 15 فصيلًا، وتتلقى دعمًا ماليًا من طهران، إضافة إلى تمويل من مكاتب اقتصادية تعمل داخل العراق باسمها وباسم الحشد.
أما “كتائب حزب الله”، فتتنافس مع “العصائب” و”بدر” على النفوذ العسكري والسياسي، وتمتلك هي الأخرى قدرات تسليحية تشمل صواريخ وطائرات مسيرة، إلى جانب أذرع اقتصادية واسعة.
“العصائب”، بقيادة قيس الخزعلي، لها سجل طويل في استهداف القوات الأمريكية، وكانت من أوائل الفصائل التي شاركت في الحرب السورية دعمًا للنظام في دمشق. ولها جناح سياسي هو “كتلة صادقون”، التي شاركت في الانتخابات، ونجحت في تثبيت أقدامها داخل مؤسسات الدولة.
الاقتصاد المقاوم: أذرع مالية للفصائل
فصائل أخرى، مثل “كتائب الإمام علي” و”كتائب سيد الشهداء”، تلعب أدوارًا مزدوجة في النشاط العسكري والعمل الاقتصادي. وقد تورط بعض قادتها، مثل شبل الزيدي، في قضايا تهريب نفط ودعم حزب الله اللبناني، مما دفع وزارة الخزانة الأمريكية إلى فرض عقوبات عليهم.
أما “سرايا السلام”، التابعة للتيار الصدري، فهي قوة مسلحة ذات طابع محلي، لكن انفصال بعض الأجنحة عنها جعلها تتشظى إلى مجموعات أخرى، تدين بالولاء لولاية الفقيه الإيراني.
وتضم “هيئة الحشد الشعبي” فصائل أخرى تتبع لأحزاب ومكونات دينية مختلفة، من بينها “المجلس الأعلى الإسلامي”، و”حزب الدعوة الإسلامية”، إلى جانب مليشيات للأقليات المسيحية والشيعية والشبكية، وحتى بعض العشائر السنية التي انخرطت في الحشد خلال الحرب على داعش.
رغم هذا التنوع، تتفق معظم هذه الفصائل على أمر واحد، وهو الحفاظ على سلاحها ونفوذها. وقد تكررت دعوات السيستاني لحصر السلاح بيد الدولة، ودمج هذه القوات ضمن الجيش أو الشرطة، إلا أن الغالبية رفضت، واستمرت في تعزيز نفوذها السياسي والعسكري.
المعادلة الصعبة: النجف وطهران والحشد
بعد نهاية الحرب ضد “داعش” في 2017، دخلت أطراف سياسية وفصائل عقائدية متعددة الولاءات في عمق تركيبة “الحشد الشعبي”. بعضها يتبع بشكل صريح القيادة الإيرانية أو المرجعيات في مدينة قم، في حين تسعى المرجعية النجفية للحفاظ على خطها المعتدل، والمستقل عن ولاية الفقيه.
وقد طالب السيستاني في أكثر من مناسبة بدمج الحشد في المؤسسة العسكرية، ورفض استغلال تضحيات المتطوعين في تحقيق أهداف سياسية. لكن الفصائل تجاهلت هذه الدعوات، وواصلت التوسع داخل مؤسسات الدولة، والسيطرة على المنافذ الحدودية، ومصادر التمويل الرسمية وغير الرسمية.
في المقابل، تُظهر المرجعية دعمًا ضمنيًا لمحور المقاومة، دون الدخول في فتاوى صريحة أو دعوات للتعبئة، مراعية خصوصية موقعها التاريخي والديني في العراق، والطائفة الشيعية عمومًا.
الفصائل العراقية اليوم ليست كما كانت قبل عقد. فهي قوة سياسية واقتصادية، لها جمهور، وموارد، وعلاقات خارجية. لكنها، في الوقت ذاته، محاطة بتعقيدات داخلية وإقليمية تجعل كل قرار تصعيدي محفوفًا بالمخاطر، ليس فقط على العراق، بل على ميزان القوة في المنطقة بأسرها.
وهكذا، قد يبدو الهدوء العراقي اليوم غريبًا في خضم تصعيد بين طهران وواشنطن، لكنه في الحقيقة نتاج حسابات معقدة، بين البقاء في الحكم أو العودة إلى دور المليشيا. وهو توازن دقيق، قد ينهار مع أول شرارة جديدة.
الاستراتيجية الإيرانية وتحجيم الأذرع الإقليمية: أستاذ العلوم السياسية يكشف أبعاد التحرك الإيراني
وفي تصريحات خاصة لـ”نافذة الشرق”، أكد الدكتور رامي عاشور، أستاذ العلوم السياسية، أن إيران اتبعت خلال الأزمة الأخيرة نهجًا محسوبًا في ضبط تحركات أذرعها الإقليمية، مشيرًا إلى أن دعوة طهران غير المباشرة للدفاع عن النفس، أو حتى الانخراط في مواجهة شاملة مع إسرائيل، لم تكن مطروحة بشكل جاد، لأن الأولوية كانت لحماية الداخل الإيراني والنظام الحاكم.
وأوضح عاشور أن كل الجهود والدعم في تلك اللحظة كانت متكرسة لحماية النظام نفسه، على حساب الدعم اللوجستي أو العسكري المباشر للأذرع الإقليمية التابعة لها، سواء في العراق أو جنوب لبنان أو غيرها من مناطق النفوذ الإيراني في المنطقة.
وأضاف: “لو تدخلت هذه الأطراف بشكل مباشر، لكانت الولايات المتحدة ستجد حجة قوية جدًا للتدخل العسكري المباشر، تحت مظلة حماية أمن إسرائيل، وليس كجزء من صراع مباشر مع إيران، وهو ما كان سيؤدي إلى الإجهاز التام على كل الأذرع الإيرانية في المنطقة”.
وأشار إلى أن عدم تحرك هذه الأذرع لم يكن من منطلق ضعف، بل ضمن خطة استراتيجية تهدف إلى تقليل الخسائر ومنع تصعيد قد يُفقد إيران أدواتها الإقليمية الفاعلة. واعتبر أن طهران فضّلت في هذه المرحلة الحفاظ على أدواتها وتجنب انخراطها في مواجهة لا تضمن نتائجها، مضيفًا: “هذا التراجع النسبي ليس تنازلاً، بل هو تكتيك مرحلي يعكس وعياً بحجم التهديدات”.
وحول اعتماد إيران على العراق في ظل الضغوط الاقتصادية، قال الدكتور عاشور إن المسألة أعمق من مجرد تنفس اقتصادي، موضحًا: “إيران تمتلك مشروعًا استراتيجيًا إمبراطوريًا في الشرق الأوسط، وهو استكمال لحلم الإمبراطورية الفارسية التاريخي، وبالتالي فإن سيطرتها على بعض المناطق في العراق ولبنان وسوريا واليمن تمثل مراحل مؤقتة لخدمة هدف أوسع”.
وأكد أن الأذرع الإقليمية لإيران لا تُمثّل فقط وسيلة لنقل السلاح أو تعزيز النفوذ، بل وسيلة لترسيخ أيديولوجيا معينة، والسيطرة على الأرض. وتابع: “حين تنشر إيران فصائلها وتنظيماتها الشيعية في تلك المناطق، فهي تُرسّخ رؤيتها العقائدية، وتحجز لنفسها موقعًا جغرافيًا وسياسيًا ضمن المعادلات الإقليمية، وبالتالي لا يمكن لطهران أن تُجازف بسهولة بخسارة هذه الأذرع”.
واختتم أستاذ العلوم السياسية حديثه بالتأكيد على أن طهران تنظر إلى هذه الفصائل كأدوات طويلة الأمد، وليست مجرد أوراق ضغط تُستخدم ثم تُهمل، ولذلك فإن تحفظها على الزج بها في التصعيد الأخير كان قرارًا استراتيجيًا محسوبًا بكل دقة.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.