القرن الافريقي صراعات وتوازنات

2

د.أحمد عبدالدايم، أستاذ التاريخ السياسى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة

 صحيح أن منطقة القرن الافريقى تتعاظم مكانتها مع الزمن، إلا أن موقعها المتميز يشبة أهمية القُدس عبر التاريخ، فهناك ألف عدو يرغب فى احتلالها أو يتمنى إحتلالها. ولعل مشهد القواعد العسكرية الأجنبية الموجودة فى هذه المنطقة يعكس هذه الأهمية ويزيدها. لكن إذا تحدثنا عن البيئة الداخلية لصراعات القرن الإفريقي فسنجد إنها مرتبطة بالمشاكل القائمة داحل شبه الجزيرة الصومالية، سواء فى دولة الصومال الأم واقليمى أرض الصومال وبونتلاند، وكذلك اثيوبيا. وقبل النظر فى طبيعة هذه الصراعات علينا أن نحدد الجغرافيا السياسية لمنطقة القرن، فشبه الجزيرة الصومالية تعد أهم منطقة جيوسياسية في الجزء الشرقي من البر الإفريقي الرئيسي، بل تعتبر رابع أكبر شبه جزيرة في العالم. لكن إذا ما وسعنا النظرة للقرن الافريقى فى المفهوم الاستراتيجى فسنجد أنه يتجاوز الصومال ويضم إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي. بل إن التعريفات الأوسع لهذا القرن تشمل أجزاءً من كينيا والسودان وجنوب السودان وأوغندا. وكل هذه المناطق تعج بالمشاكل والصراعات الداخلية. بل إن الأشهر الأخيرة، شهدت تدهورا فى العلاقات بين إثيوبيا ومصر على أرضية الخلاف بين إثيوبيا والصومال بشأن الاعتراف بأرض الصومال والاتفاق الاثيوبى الذى يستهدف الوصول للبحر وانشاء قاعدة عسكرية فى بربرة. وفي حين لا يبدو التصعيد العسكري بين الدول الثلاث وشيكًا في الوقت الراهن،  إلا أن التوترات الإقليمية تتصاعد بدرجة كبيرة.

وإذا ما نظرنا الى التهديدات القائمة فى القرن الافريقى فسنجد إنها تهديدات داخلية سابقة حتى على مذكرة التفاهم التي وقعها رئيس الوزراء آبي أحمد والرئيس موسى بيحي عبدي من أرض الصومال في يناير2024. لكن هذه المذكرة فاعلت المشكلات الداخلية مع هذه المستجدات. حيث تنص المذكرة على أن إثيوبيا ستستأجر شريطًا ساحليًا بطول 20 كيلومترًا لمدة 50 عامًا لإنشاء قاعدة بحرية هناك. وسيتم منح إثيوبيا إمكانية الوصول الاقتصادي إلى ميناء الدولة الفعلية. وفي المقابل، وعدت إثيوبيا أرض الصومال بحصة في الخطوط الجوية الإثيوبية، وعرضت احتمال النظر في الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة. وبطبيعة الحال رفضت القيادة في مقديشو مذكرة التفاهم بشدة ولم تعترف بها واعتبرتها حبرا على ورق. بل اعتبرت اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال، والذي يمكن أن تتبعه دول أخرى، انتهاكًا لسيادتها. وفي أبريل 2024، طردت الصومال السفير الإثيوبي من البلاد وسحبت ممثلها الخاص من أديس أبابا. وفي غضون ذلك، عينت إثيوبيا سفيرًا في أرض الصومال في أغسطس 2024. وعلى هذا فإن التأجيج لمنطقة القرن الافريقى كان صناعة اثيوبية بامتياز ورغبة فى فرض السيطرة والهيمنة على سيادة الصومال.  

 ومع التهديدات السابقة للصومال نلاحظ تعقيدات المسألة بصورة مذهلة.ففي الوقت الذى يشارك جيش إثيوبيا بقوة في محاربة العديد من التمردات الداخلية وأضعفته حرب 2020-2022 في شمال اثيوبيا مع التيجراى، إلا أنه موجود فى الصومال. فبسبب الوضع المهدد فى الصومال كانت إثيوبيا قد نشرت حوالي 10000 من جنودها في الصومال، ثلثهم فقط يعتبر جزءًا من بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال. وتعاونت هذه القوات بشكل وثيق مع قوات الولايات الفيدرالية الصومالية والميليشيات المحلية. وكانت الحكومة الفيدرالية الصومالية تتسامح مع هذه القوات لسنوات، على غرار الوحدات الكينية في جنوب الصومال، لأنها تعمل على توفير الأمن في مناطق عملياتها. وعلى النقيض من ذلك، ظل قطاع الأمن الصومالي قيد التطوير. فهو غير قادر على حماية مقديشو بشكل فعال من هجمات حركة الشباب. حيث تنقسم قوات الأمن الصومالية بين وحدات تحت قيادات مختلفة من الحكومة الفيدرالية، والولايات الفيدرالية الأعضاء، والميليشيات العشائرية التي تعمل بشكل غير متماسك. وعلى الرغم من النجاحات في تدريب بعض الوحدات، ظلت قوات الأمن الصومالية تعتمد بشكل كبير على الدعم العسكري والمالي الدولي من الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وتركيا وكينيا وإثيوبيا. وعلى هذا الاساس سعى الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى إبرام اتفاقية أمنية مع مصر في أغسطس 2024، لتغيير المعادلة مع اثيوبيا. وعلى هذا الأساس سلمت مصر أسلحة لمقديشو، وتقوم بتدريب الجيش والشرطة الصومالية.

 وبالنظر للبيئة الخارجية المحيطة بالقرن الافريقى فسنجدها بيئة داعمة للصراعات، ومتداخلة فى توجيه الدول والجماعات بطريقة تخدم مصالحها. والمشاهد للتدخلات الروسية والامريكية فى القرن الافريقى سنجد الولايات المتحدة قد عززت من دورها بتخصيص مبعوث خاص لمنطقة القرن الافريقى، وفصلت هذه المنطقة عن السودان بتعيين مبعوث خاص للسودان منذ فبراير 2024. فى حين تسعى روسيا لإقامة قاعدة عسكرية فى شرق السودان وتم استخدام جيبوتي وغيرها من الموانئ الإقليمية لدعم الوجود البحري الروسي في الإقليم. وعلى هذا سنركز على القرن الافريقى بمفهومه السياسى القديم دون التطرق للسودان وصراعه الداخلى. فالقرن الافريقى الذى يشمل الصومال واقاليمه المنفصلة واثيوبيا وجيبوتى واريتريا، تشكل فيه اثيوبيا عنصرا مهيمنا ولاعبا رئيسيا فى تحريك الاحداث لصالحها. ولعل وجودها فى اقليم أرض الصومال وتنسيقها مع قيادته يشبه الغراب الذى يرى فى ابنه صقرا، حتى وإن كان هذا الأبن غير شرعى ويخص طرف آخر. ولولا الوجود المصرى داخل جمهورية الصومال وتوقيعهما اتفاقية دفاع مشترك برعاية جامعة الدول العربية في أغسطس 2024 لنفذت اثيوبيا مخططها. ولعل مبالغة التقارير الغربية والاثيوبية بأن مصر بموافقة من الصومال، تخطط لإرسال عدة آلاف من الجنود لمنطقة القرن الأفريقي لمحاربة حركة الشباب واستبدال القوات الإثيوبية المتمركزة هناك كجزء من مهمة الاتحاد الأفريقي، يشى بهذا التخوف من الدور المصرى المساند للصومال. وهو ما جعل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد يتشنج فى ردوده على هذا التدخل، ويجعل الجيش الإثيوبي يقوم بنشر أسلحة ثقيلة على الحدود مع الصومال. وبالمقابل هدد وزير الخارجية الصومالى بدعم الجماعات المسلحة في إثيوبيا إذا لم توقف أديس أبابا خطواتها نحو الاعتراف الدبلوماسي بأرض الصومال. هذا وقد تلقت الصومال الدعم ليس فقط من مصر، بل من إريتريا عبر قمة ثلاثية عقدت في أكتوبر في أسمرة، اتفق فيها رؤساء الدول الثلاث على تكثيف تعاونهم الأمني. وفي الوقت نفسه تقدمت مصر بشكوى لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، متهمة أديس أبابا بتعريض أمنها المائي للخطر من خلال تشغيل سد النهضة الإثيوبي. وزعمت إثيوبيا بدورها أن مصر هددتها مرارا وتكرارا بالعنف. ومن الواضح أن صراعين مركزيين في منطقة القرن الأفريقي أصبحا مترابطين بشكل متزايد ومركب.

  وهناك ثلاث سيناريوهات لحل اشكالية القرن الافريقى عبر احداث التوازن وانهاء الصراعات. السيناريو الأول، يوجد عاملان يخففان بشكل كبير من خطر اندلاع صراع مسلح بين إثيوبيا والصومال ويتمثلان فى التوازن العسكري للقوة، ثم المصلحة المشتركة في محاربة حركة الشباب. ومن المستبعد نشوء صراع مسلح بين الصومال واثيوبيا، لأن كلا الدولتين معرضتان لتصعيدات متعمدة وغير مقصودة بسبب انقساماتهما الداخلية. وبالتالى فإن نجاح الصومال مع قوة حركة الشباب وانتشار تنظيم الدولة الإسلامية في بونتلاند، سيفتح الطريق أمام الجمهورية الصومالية لاستعادة استقرارها واعادة اقاليمها المنفصلة واجبار اثيوبيا على التخلى عن مشروعها فى الاستيلاء على ممر بحرى داخل أرض الصومال. وربما يكون الوجود المصرى عبر بعثة الاتحاد الافريقى لحفظ السلام فى الصومال هو المفتاح الذى تعول عليه دولة الصومال فى تقوية مؤسساتها وإعادة استقرارها.

 السيناريو الثانى، قدرة الصومال على الوقوف أمام اثيوبيا وتهديد مصالحها. ولعل اعلان الحكومة الصومالية بأنه إذا لم تسحب إثيوبيا مذكرة التفاهم، فعلى القوات الإثيوبية مغادرة البلاد بحلول نهاية ديسمبر 2024 عندما تنتهي مهمة قوات حفظ السلام. وهذا السيناريو يقف أمامه حقيقة مفادها أن إثيوبيا لا تستطيع تحمل تكاليف الانسحاب وبالتالى تحريك صنائعها داخل الصومال. لكن السؤال الذى يطرح نفسه هو من سيستسلم أولاً؟ وهل الوجود المصرى سيقوى الصومال ليعود لاعبا اقليميا مهما فى منطقة القرن الافريقى؟ اعتقد أن الاجابة مرتبطة بكيفية نجاح الصوماليين فى صناعة الاستقرار الداخلى، وإيجاد اَلية لتقريب ارض الصومال إليهم مرة أخرى، وابعاد اثيوبيا عن الانفراد بأرض الصومال أو تكون محركا للاحداث داخل الصومال.

 السيناريو الثالث، تهدئة يتبعها عدم استقرار. فمع نهاية بعثة الدعم والاستقرار في الصومال في نهاية ديسمبر 2024، واعتماد مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الأفريقي لبعثة الدعم والاستقرار الجديدة في الصومال، والتي ستحل محل البعثة السابقة في يناير 2025، لم يتضح بعد البلدان التي ستوفر القوات أو كيف سيتم تمويل المهمة. وعلى هذا يمكن أن تتولى القوات المصرية زمام المبادرة، إلى جانب فرقة أصغر حجمًا تقدمها جيبوتي. ومع ذلك، يبقى أن نرى من سيوفر بقية الجنود البالغ عددهم 12000 جندي. فمن الممكن إرسال المزيد من القوات من المساهمين الحاليين، أي كينيا وأوغندا. ومن المقرر أن تستمر بعثة الدعم والاستقرار في الصومال لمدة خمس سنوات، وتسليم المسؤولية المتزايدة تدريجيًا لقوات الأمن الصومالية. وسيتعين على مصر أن تنشئ اتصالات مع البيئة المحلية بعناية شديدة حتى تتم التهدئة. لكن رغبة ولاية جنوب غرب الصومال فى استمرار وجود القوات الإثيوبية يشى بالاصابع الاثيوبية فى صناعة عدة الاستقرار. حيث وقف رئيس ولاية جنوب غرب الصومال ضد نشر القوات المصرية مفضلا الإبقاء على الوحدات الإثيوبية المنتشرة في ولايته. وعلى هذا يمكن لمصر أن تسعى لرأب الصدع فى العلاقات المتوترة بين مقديشو والولايات الأعضاء الفيدرالية. ومن ناحية أخرى ظهرت الاصابع الاثيوبية قوية في نهاية شهر مارس 2024 حين أعلن اقليم بونتلاند برعاية اثيوبية أنه سينسحب من النظام الفيدرالي للبلاد، بعد أن دفعت الحكومة الفيدرالية الفصول الأولى من الإصلاح الدستوري عبر البرلمان. بل واتهمت وزارة الخارجية الصومالية إثيوبيا بتزويد بونتلاند بالأسلحة. وبالمقابل راحت اثيوبيا تتهم دولة الصومال بدعم جبهة تحرير أوجادين الوطنية في جنوب اثيوبيا. وعلى هذا توجد فرص للصومال لمجابهة اثيوبيا وقطع أذرعها. حيث توجد اشتباكات داخل اثيوبيا من قبل أمهرة وأوروميا وبني شنقول وتيجراي. بل إن أكثر مراكز الصراع نشاطًا في إثيوبيا هي مناطق أمهرة وأجزاء من أوروميا. حيث استفادت ميليشيات فانو في أمهرة من التدريب السابق من قبل القوات الإريترية، بل يوجد تعاون قائم بين جيش تحرير أورومو وحركة الشباب في الصومال. وعلى هذا يمكن للصومال بمساعدات مصرية أن يغير المعادلة مع اثيوبيا بقراءة صراعاتها الداخلية والاستفادة منها، ويحدث توازن فى القوة والاستقرار ليعود الصومال كما كان سابقا أكبر قوة عسكرية فى منطقة القرن الافريقى.

الكاتب/ احمد عبدالدايم

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.