الكنز الممنوع: كيف تحوّل ذهب مثلث حدود السودان–مصر–ليبيا إلى وقود لصراع؟
عبد الرحمن السيد
بين كثبان الرمال وأعماق الجغرافيا المجهولة، يمتد “المثلث الحدودي” على تماس ثلاث دول عربية هي: السودان، مصر، وليبيا، في منطقة قاسية المناخ، وعرة التضاريس، وغنية بالثروات الطبيعية، وعلى رأسها الذهب. ورغم ما كانت تحمله تلك الرقعة الجغرافية من فرص تعاون حدودي مشترك، تحولت في السنوات الأخيرة إلى أرض نزاع مسلح وتنافس استخباراتي إقليمي، وتفجّر الصراع فيها مجددًا بعدما سيطرت قوات “الدعم السريع” عليها بالكامل، وسط تحذيرات سودانية من جرّ المنطقة إلى حرب حدودية مفتوحة.
أولًا: الأهداف الاقتصادية.. حين يصبح الذهب لعنة
لطالما وُصفت منطقة المثلث الحدودي بأنها “مثلث الذهب”، لما تحتويه من كميات معتبرة من المعدن النفيس، تقدرها تقارير غير رسمية بأنها من بين أغنى مناطق السودان بالذهب الخام، وتحديدًا حول جبل العوينات الذي يقع على ارتفاع يقارب 2000 متر، ويغطي مساحة تتجاوز 1500 كيلومتر مربع.
لكن هذه الثروة الطبيعية، بدلًا من أن تكون منطلقًا للتنمية والتكامل الاقتصادي بين الدول الثلاث، أصبحت في قلب اقتصاد الحرب، حيث تُستخدم عمليات التنقيب غير الرسمي والتهريب في تمويل المليشيات، وتوفير وقود القتال، وسط غياب حقيقي لأي رقابة سيادية.
وحول ذلك، قال المحلل السياسي الدكتور كريم عبد العال، في تصريح خاص لـ”نافذة الشرق“، أرسله مكتوبًا: “المثلث الحدودي أصبح واحدًا من أهم مصادر التمويل لقوات الدعم السريع بعد خسارتها المتكررة في وسط السودان، والذهب المستخرج من المنطقة يُباع في أسواق موازية خارج سلطة الدولة، ما يعني أن المليشيا تؤسس لاقتصاد حرب يضمن استمرارها.”
وأضاف: “في ظل غياب قوة مركزية حاكمة في ليبيا، واستمرار التوتر في السودان، فإن هذه الثروات ستكون مطمعًا دائمًا ومصدرًا لتأجيج الصراع بدلًا من إنهائه.”
ثانيًا: البُعد الأمني واللوجستي.. جغرافيا تهدد الجوار
أهمية المثلث لا تنبع من ثرواته فقط، بل من موقعه الجغرافي بالغ الحساسية، حيث يقع على تقاطع حدودي فريد من نوعه، ويرتبط بأربع نقاط استراتيجية: واحة سيوة في مصر، جبل العوينات، مدينة الكفرة الليبية، وشمال دارفور.
بحسب بيانات الجيش السوداني، فإن قوات الدعم السريع دخلت المنطقة بقوة نارية مسنودة بعناصر تابعة للواء الليبي خليفة حفتر، وهو ما نفته قيادة الجيش الليبي لاحقًا. لكن التحرك بحد ذاته يعكس محاولات لخلق واقع جديد في منطقة نائية لكن مؤثرة.
وتشير التقارير السودانية الرسمية إلى أن القوات المسلحة السودانية شنت غارات جوية مركّزة على مواقع تمركز قوات الدعم السريع في المثلث، وأسفرت عن “خسائر كبيرة”، فيما بدأ السودان تحركات دبلوماسية لإدانة ما وصفه بـ”العدوان السافر” على وحدة أراضيه.
ثالثًا: تكلفة التدخل المصري.. الحذر بدل الاندفاع
مصر، وهي ثالث ضلع في هذا المثلث، تتعامل بحذر بالغ مع التطورات. ورغم تأكيد القاهرة أن أمنها القومي لا يقبل المساس، فإنها لم تنزلق إلى أي تحرك ميداني في المنطقة حتى الآن، وهو ما أشار إليه السفير حسام عيسى في تصريح: “مصر لن تُجر إلى حرب إقليمية، ولن تنساق إلى المستنقع السوداني، لكنها لن تقبل أيضًا بأن يتحوّل المثلث إلى نقطة تهديد حدودي.”
وفي هذا السياق، يرى الدكتور كريم عبد العال في تصريحه لـ”نافذة الشرق”: “التدخل العسكري المباشر سيكون مكلفًا جدًا لمصر، خاصة في توقيت يشهد توترات إقليمية واسعة، من الخليج إلى البحر الأحمر. لكن مصر في الوقت نفسه تمتلك أدوات الردع والتأثير وتراقب الوضع على مدار الساعة.”
وأضاف: “هناك بدائل متعددة أمام القاهرة، مثل دعم السودان سياسيًا واستخباراتيًا، وتفعيل الاتفاقات الأمنية الثلاثية، وربما إرسال رسائل ردع مباشرة عبر الحدود دون الانخراط الكامل في المواجهة.”
رابعًا: سيناريوهات مستقبلية.. بين التصعيد والتجميد
مع تصاعد النزاع، تبرز ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السيطرة على مثلث الذهب:
استمرار الدعم السريع في التمركز واستغلال الموارد: وهذا السيناريو يغذّي اقتصاد الحرب ويزيد من طول أمد الأزمة السودانية.
عودة الجيش السوداني بدعم خارجي لاستعادة السيطرة: وهو ما قد يتسبب في موجة جديدة من العنف في منطقة شديدة التعقيد جغرافيًا وأمنيًا.
تدويل الأزمة وضغط دبلوماسي ثلاثي (مصر – السودان – ليبيا): عبر تحويل المنطقة إلى “نقطة محايدة” منزوعة السلاح، وتجميد النشاط العسكري فيها.
وبحسب الدكتور عبد العال، فإن السيناريو الأقرب في الوقت الراهن هو “التثبيت المرحلي: “الدعم السريع لن يستطيع الاحتفاظ بالمنطقة طويلًا، لكنه سيوظفها كورقة ضغط في المفاوضات القادمة. من المرجح أن نرى تحركات مصرية صامتة لضمان عدم استغلال المثلث كممر لتهديدات أمنية أو لوجستية ضد حدودها الغربية.”
وفي خضم المشهد المضطرب، تبقى إدارة الموارد والثروات في المناطق الحدودية اختبارًا حقيقيًا لجدية الدول في حماية أمنها القومي دون الانزلاق إلى فوضى المليشيات أو اقتصاد الظل. فالمثلث ليس مجرد ساحة صراع عسكري، بل مرآة لعجز السياسات الإقليمية عن تحويل الجغرافيا إلى شراكة، بدلاً من تحويلها إلى ساحة حرب.
وإذا كانت قوات الدعم السريع تراهن على الذهب لتمويل بقائها، فإن الدول الثلاث المعنية أمام اختبار موازٍ: إما احتواء الصراع بحلول دبلوماسية وأمنية ذكية، أو الدخول في دوامة جديدة من نزيف الموارد والدماء. فالصحراء تحفظ الأسرار، لكنها لا تغفر للأطراف التي تُسيء تقدير موازينها.
ختاما، تحوّل المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا من أرض قاحلة إلى جائزة ملطخة بالدماء في لعبة النفوذ الإقليمي. ففي رماله المدفونة ذهب كثير، لكن أيضًا قنابل موقوتة. ومن يمتلك السيطرة عليه، لا يربح فقط الثروة، بل أيضًا بوابة إلى التأثير العسكري والسياسي في ثلاث دول دفعة واحدة. وبينما تصمت البنادق مؤقتًا، تبقى الحقيقة الأهم: المثلث ليس مجرد جغرافيا… بل مفتاح لحرب، أو فرصة للسلام؟
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.