بعد 46 عامًا من القطيعة بين مصر وإيران.. كيف أنعشت القاهرة المفاوضات النووية ؟
كتبت: هدير البحيري
في تحول دبلوماسي لافت، خطفت القاهرة الأضواء بعدما نجحت في جمع طهران والوكالة الدولية للطاقة الذرية على طاولة تفاهم بشأن الملف النووي الإيراني، في خطوة وُصفت بالاختراق الدبلوماسي المهم.
ويأتي هذا الإنجاز بعد أكثر من شهرين من القطيعة بين الجانبين، إثر قرار إيران تعليق تعاونها مع الوكالة احتجاجًا على صمتها حيال الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة ضد منشآتها النووية.
وقعت إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في العاصمة المصرية القاهرة اتفاقًا يقضي باستئناف التعاون الفني بين الطرفين، بما في ذلك وضع آليات عملية لعودة أنشطة تفتيش المنشآت النووية الإيرانية، وسط تحذيرات من طهران بأن إعادة فرض العقوبات الأممية ستعني عمليًا توقف تنفيذ “الخطوات العملية” المنصوص عليها في الاتفاق.
وجاء الإعلان عن الاتفاق عقب مشاورات مكثفة جمعت وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ونظيره الإيراني عباس عراقجي، إلى جانب المدير العام للوكالة رافائيل جروسي.
السيسي: الاتفاق يمهد لمرحلة جديدة من الدبلوماسية
عقد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لقاءً ثلاثيًا مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي، بحضور وزير الخارجية المصري بدر عبدالعاطي، رحب خلاله بالزيارة المشتركة التي جاءت تتويجًا للمسار التفاوضي الذي أشرفت عليه مصر.
وأشاد السيسي بالاتفاق الذي تم التوصل إليه، واعتبره خطوة إيجابية تهدف إلى خفض التصعيد وإفساح المجال أمام الدبلوماسية والحوار، بما يمهد للعودة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى تسوية سلمية للبرنامج النووي الإيراني.
وشدد على ضرورة تنفيذ الاتفاق واستمرار الاتصالات مع جميع الأطراف لتعزيز فرص التوصل إلى حلول تفاوضية تحقق الاستقرار الإقليمي.
عبد العاطي: الجهود المصرية لم تتوقف رغم التصعيد
من جانبه، قال وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إن القاهرة حرصت على دعم جهود خفض التصعيد والتهدئة بعيدًا عن المواجهات التي قد تنعكس سلبًا على أمن المنطقة والعالم، مؤكدًا أن الأسابيع الماضية شهدت تصعيدًا ملحوظًا، ورغم ذلك استمرت الجهود المصرية لاستئناف الاتصالات بين إيران والوكالة للتوصل إلى تفاهمات.
وأضاف عبدالعاطي أن الاجتماع الذي استضافته القاهرة أسفر عن توقيع اتفاق يمثل إطارًا عمليًا جديدًا للتعاون بين الجانبين بعد مشاورات مكثفة.
إيران والوكالة الذرية تثمنان الوساطة المصرية
ونشر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي على حسابه الرسمي على “إكس” أن بلاده تعرب عن بالغ شكرها وتقديرها لمصر لدورها البارز في تسهيل مسارات الدبلوماسية، مضيفًا أن إطار التعاون بين إيران والوكالة أصبح ممكنًا بفضل جهود وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي ودعم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فيما عبر جروسي عن تقديره العميق للدور المصري في دعم أنشطة الوكالة، مضيفًا أن سبب نجاح المفاوضات بين الوكالة وإيران، وإبرام الاتفاق بين إيران والوكالة يرجع إلى وزن مصر ووضعها ومكانتها.
آلية الزناد.. شبح العقوبات الأممية يطل من جديد
وفي ظل تصاعد الضغوط الغربية لتفعيل “آلية الزناد” وإعادة فرض العقوبات الأممية مع اقتراب مهلة 18 أكتوبر، جاءت الوساطة المصرية لتعيد تحريك الجمود.
يأتي هذا التطور بعدما لم تتمكن الوكالة الدولية منذ يونيو الماضي من دخول المواقع النووية الإيرانية الرئيسية، عقب الهجمات الأمريكية والإسرائيلية، وما تبعها من قانون أصدره البرلمان الإيراني يقيّد التعاون مع الوكالة ويشترط موافقة المجلس الأعلى للأمن القومي على أي عمليات تفتيش.
“آلية الزناد”، أو ما يُعرف إعلاميًا بـ”سناب باك”، تتيح لأي دولة مشاركة في الاتفاق النووي القول إن إيران لم تلتزم بتعهداتها. تبدأ بمحاولة حل النزاع داخل اللجنة المشتركة ووزراء الخارجية، وإذا لم يُحل الخلاف تُحال القضية إلى مجلس الأمن لإعادة فرض العقوبات تلقائيًا.
وفي يوليو 2025، برزت تحذيرات أوروبية من احتمال تفعيل الآلية، تزامنًا مع الذكرى العاشرة لتوقيع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1، ردًا على تغيير إيران موقفها من التعاون مع الوكالة وتهديداتها بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي بعد الهجوم الذي استهدف منشآتها النووية في يونيو 2025.
كانت هذه الآلية مدرجة منذ البداية ضمن خطة العمل الشاملة المشتركة الموقعة في يوليو 2015 بين إيران ومجموعة 5+1، بهدف طمأنة الأطراف الغربية وإسرائيل ودول المنطقة بأن هناك وسيلة سريعة لإعادة فرض العقوبات في حال خالفت إيران التزاماتها.
اتفاق إيران والوكالة الذرية.. مناورة إيرانية أم تكتيك لتفادي العقوبات؟
قال الباحث في الشؤون الإيرانية وسياسات الشرق الأوسط أسامة حمدي، في حديث خاص لـ”نافذة الشرق”، إن السياسة الإيرانية تتسم بالمرونة والبراجماتية، خصوصًا في تعاطيها مع الملف النووي تجاه القوى الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية.
وأضاف أن هذه المرونة ساعدت النظام الإيراني على البقاء واستمرار مشروعه النووي عبر سنوات طويلة.
ويرى حمدي أن توقيع الاتفاق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة يأتي في إطار تكتيك مؤقت اتبعته طهران لتجنب تفعيل الترويكا الأوروبية لآلية الزناد عبر مجلس الأمن.
المرونة الإيرانية.. خطوة لتأجيل “آلية الزناد” قبل أكتوبر
وبحسب حمدي، اضطرت إيران إلى توقيع اتفاق يوفر إطارًا للتعامل مع الشواغل الفنية، لا سيما إعادة التفتيش من قبل مراقبي الوكالة والتأكد من مصير نحو 400 كيلوجرام من اليورانيوم المخصّب إلى درجة نقاء 60% — المشكلة التي تثير قلق الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية لاقترابها من نسبة 90% اللازمة لصناعة السلاح النووي.
وأوضح الباحث في الشؤون الإيرانية وسياسات الشرق الأوسط أن طهران تدرك جيدًا أن تفعيل آلية الزناد سيؤدي إلى عودة عقوبات أممية صارمة تفرض إجراءات اقتصادية تشل قدراتها المالية، وتمنع بيع نفطها وصادراتها، وتفتح مسارات لعزلها دبلوماسيًا وربما لخيارات عسكرية بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وعليه، يشير حمدي إلى أن إيران اختارت إبداء قدر من المرونة الآن لتفادي تطبيق هذه العقوبات حتى بلوغ يوم 18 أكتوبر المقبل، وهو الموعد الذي تنقضي عنده مهلة إعادة العقوبات السابقة بعد عشر سنوات، وتفقد الترويكا الأوروبية بمقتضاه ورقة الضغط تلك.
وحذر حمدي من أن الترويكا الأوروبية بعد هذا الموعد لن تمتلك وسائل ضغط كافية على إيران، ما قد يضعف دورها التفاوضي خصوصًا مع احتمال سعي إدارة أمريكية جديدة لإدارة الملف بمفردها، ما قد يمهد لمكاسب واستثمارات اقتصادية محتملة في حال أي اتفاق مستقبلي مع طهران.
وبخصوص النتائج الفعلية للاتفاق الجديد، يرى حمدي أن استجابة إيران لمعالجة الشواغل الفنية قد تجرد الأوروبيين من مبررات تفعيل آلية الزناد، ما سيدفع الترويكا إلى البحث عن تأجيلها وحث طهران على الانخراط في مفاوضات جادة قبل 18 أكتوبر.
وقال حمدي إن الفترة المتبقية ضيقة للغاية، متوقعًا أن تستغل إيران هذا الضيق للمماطلة.
تحركات طهران الدبلوماسية لتجنب مواجهة نووية
وأشار الباحث في الشؤون الإيرانية إلى أن طهران باتت مهيأة للدخول في مفاوضات مباشرة مع واشنطن، لا سيما بعد نقل الملف نوويًا إلى المجلس الأعلى للأمن القومي وتعيين علي لاريجاني كممثل شخصي للمرشد، وهو ما يعكس تحولًا في آليات إدارة الملف لصالح خبراء تفاوضيين ذوي باع طويل في المفاوضات مع الغرب.
وأضاف أن إيران تسعى للتفاوض لتجنب إعطاء ذريعة لكل من واشنطن وتل أبيب لاستئناف الاستهداف، مؤكدًا أن الوقت يعمل لصالح طهران وأنها في الوقت نفسه تؤكد على حقها في التخصيب، لذلك “لا يوجد لديها ما تخسره من التفاوض”، في حين أن رفض الحوار قد يقودها إلى مواجهة غير متكافئة.
استعدادات إيران العسكرية والأمنية في ظل تصاعد التوتر النووي
وحول سيناريو العودة إلى العقوبات الأممية، قال حمدي إن طهران قد تلجأ إلى الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي والدخول في مرحلة من الغموض النووي قد تصل إلى إجراء تجربة نووية تدخل بها نادي الدول النووية، ما يعكس أحد أسوأ الاحتمالات في حال تصاعد التوتر.
وفي جانب الاستعدادات الأمنية والعسكرية، ذكر حمدي أن إيران اتخذت عدة إجراءات داخلية وخارجية للتصدي لأي تهديد إسرائيلي محتمل، شملت إعادة تشكيل المجلس الأعلى للأمن القومي وتشكيل مجلس دفاع وطني يسرع اتخاذ القرارات الدفاعية وتلبية متطلبات التكنولوجيا العسكرية.
وأضاف أن طهران عززت تعاونها الأمني والعسكري والاستخباري مع روسيا والصين وباكستان، وشرعت في حملات أمنية ضد شبكات تجسس مفترضة واعتقالات واسعة طالت آلاف المشتبه بهم، إلى جانب تشديد إجراءات الهجرة تجاه بعض الفئات.
وقال حمدي إن إيران عملت على تطوير منظومتها الصاروخية بإنتاج صواريخ بعيدة المدى مثل صاروخ “خرمشهر” الذي يصل مداه إلى 12 ألف كيلومتر ويحمل رأسًا متفجرًا كبيرًا، كما أعادت بناء مخزونات صاروخية واسعة لتعزيز قدرتها الردعية.
الحرب الإعلامية ورفع منسوب الردع
وعن المناخ الداخلي والإعلامي، لفت حمدي إلى أن ثمة نقاشًا متصاعدًا داخل الإعلام الإيراني — وهو ما تراقبه إسرائيل عن كثب — حول خيار توجيه ضربة استباقية لإسرائيل انتقامًا لهجمات يونيو، بدلًا من انتظار ضربة إسرائيلية والرد عليها لاحقًا.
ورأى أن هذه الخطابات تأتي في سياق الحرب النفسية والإعلامية بين الطرفين، وقد تُستخدم كورقة تفاوضية أو لرفع منسوب الردع.
الوساطة المصرية من منظور إيراني
قال الباحث السياسي الإيراني مهدي عزيزي إن إشراف وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي على المفاوضات يعكس إرادة مصرية رفيعة المستوى لاحتواء التوترات الإقليمية، مؤكدًا أن الحل العسكري ليس خيارًا في مواجهة التحديات الإقليمية الحالية.
وأكد عزيزي في تصريحات للجزيرة نت أن نجاح الوساطة المصرية قد يفتح مرحلة جديدة من العلاقات بين طهران والقاهرة، مع إمكانية تطوير التمثيل الدبلوماسي إلى مستوى تبادل السفراء، مشيرًا إلى أن التنسيق السياسي بين البلدين شهد تقدمًا ملموسًا منذ عملية “طوفان الأقصى” عام 2023.
وأضاف أن هذا النجاح يعزز مكانة القاهرة دبلوماسيًا على المستويين الإقليمي والدولي، ويضعها بين اللاعبين الرئيسيين القادرين على المساهمة في حل الأزمات الإقليمية، مؤكدًا أن قدرتها على الحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف تمثل ورقة قوة تساعدها في خلق توازن داخل المعادلات الإقليمية المعقدة.
وأشار عزيزي إلى قوة العلاقات التاريخية بين الشعبين الإيراني والمصري والدور البارز الذي لعبه الرئيس الأسبق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي في ملف طهران النووي.
في سياق متصل، كتب المستشار السياسي للرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني، حسام الدين آشنا، على منصة “إكس” أن إيران بوساطة دولة كانت قد قطعت معها العلاقات قبل 46 عامًا، نجحت في التوصل إلى اتفاق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تتعاون معها منذ 12 عامًا، بهدف منع عودة قرارات الفصل السابع التي كانت قد تجاوزتها قبل نحو عشر سنوات.
من جانبه، قال الدبلوماسي الإيراني السابق فريدون مجلسي إن نجاح الوساطة المصرية جاء كنتيجة طبيعية للخطوات الأخيرة التي اتخذتها طهران، بما في ذلك قرارها قبل شهرين بتغيير اسم شارع خالد إسلامبولي – القاتل المسؤول عن اغتيال الرئيس المصري الأسبق أنور السادات – إلى اسم حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني.
وأشار مجلسي إلى أن هذا التطور يعكس أهمية الدور المصري في الوساطة بين إيران والمجتمع الدولي، مؤكدًا قدرة القاهرة على لعب أدوار محورية في القضايا الإقليمية المصيرية، بما في ذلك عملية السلام في الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية، وحصار غزة، بالإضافة إلى كونها شريكًا موثوقًا للقوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.