تأثير المهاجرين السودانيين في الاقتصاد المصري

20

رغم الخطاب السياسي المنمق تجاه هجوم المهاجرين والنازحين العرب والافريقيين على مصر من جراء الحروب والصراعات التي نشأت في بلدانهم إلا أن جموع المصريين أضافت هؤلاء سببًا ضمن جملة الضائقة الاقتصادية التي يمرون بها. وفى مقدمة هؤلاء المهاجرين يأت السودانيين كأكثر من نصف الاعداد الموجودة في مصر. فقبل بداية الصراع بين الدعم السريع والجيش السوداني في ابريل 2024، كان يوجد بمصر حوالى 5 مليون سوداني و4 مليون من بقية المناطق الدول العربية والافريقية الأخرى. وبطبيعة الحال يختلف وضع المهاجر عن اللاجئ السياسي عن النازح والفار من الحرب والدمار. فبعد قيام الحرب السودان جاء الى مصر ما يقارب المليون، فشكل هؤلاء وأولئك ضغطا على الاقتصاد المصري وضاعفوا من اَثار الإصلاحات الاقتصادية التي يعيشها. ولعل النظر لأماكن إقامة هؤلاء السودانيين الجدد وزحام الشوارع والاحياء بهم، كالمهندسين وفيصل وغيرها، سترى الكثير من المصريين يرأف بحالهم ويتأفف من زحامهم ودورهم في غلو الإسكان والمعيشة وارتفاع سعر الدولار مقابل الجنية المصري. ورغم أن هؤلاء ليس لهم علاقة بتدني قيمة الجنية المصري مقابل الدولار إلا أن المواطنين يربطون توقيتات قدومهم، فيتهمونهم بهذا الأمر. لكن في اغلب الأحيان يرجعون لرشدهم ويقولون بأن هؤلاء لا ذنب لهم، ولا يجدون في أنفسهم وأحوالهم بعيدين عنهم، فجميعهم يعانون الفقر وضيق الحال. بل ترى الكثيرين يقولون بأن بيضة اليوم هي أفضل من دجاجة الغد، لأنه يرى في الجوار المحيط صراعا مستمرا لا تسكت بنادقه. وعلى هذا فإن اختيار الكلمات في موضوع كهذا يعد كاختيار الملابس، فلابد وأن يكون مناسبا، وأن يتم بأناقة ودقة.

 ولعل ما كشف عنه رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خلال اجتماع عقده مجلس الوزراء المصري لمعالجة وضع اللاجئين في يناير 2024، وبأن مصر استوعبت 40% من الفارين من السودان، يعبر عن حجم الضائقة الاقتصادية التى تعانيها مصر. فقد أثار هذا التصريح والتغطية الإعلامية اللاحقة ارتباكا وجدلاً واسع النطاق، بما أدى إلى تأجيج خطاب معادى ضد هذه الفئات. ويبدو أن معاناة المواطنين من تأثير هؤلاء المهاجرين وانتشار كثير من الفيديوهات التى  تصورهم بأنهم السبب الجذري فى أزمتهم الاقتصادية الشديدة، والتي اتسمت بتدهور الظروف المعيشية وارتفاع تكاليف الخدمات والنقص الحاد في السلع الأساسية، كانت هى المراَة التى بنت عليها الحكومة تصريحاتها. فاستضافة مليون سودانى فوق الـ 9 ملايين السابقين على الاقتصاد المصري، فرض تحديات متعددة الأوجه، وخاصة في سياق الإصلاحات الاقتصادية الجارية حينئذ في البلاد والمساعي نحو التنمية المستدامة. فقد أدت الحرب الاهلية السودانية إلى زيادة غير مسبوقة في أعداد اللاجئين، مما فرض ضغوطًا إضافية على موارد البلاد والبنية الأساسية والخدمات العامة. وفي خضم التحديات الاقتصادية، بما في ذلك التضخم والبطالة، واجهت مصر، ولا زالت، مهمة دمج هذه الفئة السكانية في نسيجها الاقتصادي.

فتدفق اللاجئين والمهاجرين قد أحدث تأثيرا مزدوجا على سوق العمل. ففي حين ساهم هؤلاء في قوة العمل، وقدمو مهارات وعمالة متنوعة، إلا أنهم شكلوا منافسا للعمالة المحلية المصرية، وخاصة في القطاعات ذات المهارات المنخفضة. وهذه المنافسة، إذا لم تتم إدارتها بعناية، يمكن أن تؤدي إلى توتر العلاقات وتفاقم معدلات البطالة. وقد أدت الزيادة في عدد السكان إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات الأساسية. وفي حين حفز هذا الأسواق المحلية والإنتاج، إلا أنه شكل خطرا كبيرا وضغوطا على مستلزمات الانتاج والخدمات. وتتطلب مثل هذه الديناميكيات الرصد والاستجابة الدقيقة للحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. وعلى هذا تواجه خدمات التعليم والرعاية الصحية والإسكان طلباً متزايداً من هؤلاء المهاجرين واللاجئين. وبدون الدعم والتوسع الكافيين، قد تصبح هذه الخدمات مرهقة، مما يؤثر على اللاجئين والمجتمعات المضيفة. اضاقة لذلك فقد تـأثرت التجارة المصرية مع السودان، ففى حين كانت مصر تصدر البلاستيك والأسمدة ومنتجات الطحن والجير والأسمنت والمنتجات الدوائية الى السودان، إلا أن الحرب قد أثرت على الشركات المصدرة لهذه المنتجات. وفى مجال الاستيراد حدث نفس الشيئ ايضا، حيث توقف استيراد الحيوانات الحية والبذور الزيتية والقطن واللحوم والأسماك. وعلى هذا وجب على الدولة المصرية أن توجد بديلا لهذه المنتجات، وإلا لكانت السوق المصرية تعانى من نقص كبير. ووهو الأمر الذى جعل مصر تسعى للعثور على موردين بديلين للحوم لتلبية متطلبات السوق المحلية، وتنويع استيراد اللحوم من الدول الأفريقية.

 وحتى مع نجاح مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فى ضمان إدراج اللاجئين في أنظمة الصحة العامة والتعليم في مصر، من خلال تقديم الدعم في شكل إمدادات ومعدات طبية، والمساعدة المالية للمدارس التي سجلت لاستقبال اللاجئين، إلا أن عدد المقيدين فى سجلات الامم المتحدة قليل جدا مقارنة بالاعداد التى لم تستطع التسجيل أو فى انتظار التسجيل أو ينقصها الأوراق والمستندات لتتمكن من التسجيل. وبصرف النظر عن هذا العدد، فإن الأفراد المتبقين هم زوار ومقيمين مؤقتين، فضلا عن المهاجرين الذين يحاولون تنظيم وضعهم من خلال وسائل قانونية مختلفة للحصول على إقامة طويلة الأجل، ومن ثم الاندماج في المجتمع. وبحسب التصريحات الرسمية فإن 60% من الأجانب المقيمين في مصر، يقيمون في البلاد منذ نحو عشر سنوات، و37% منهم يعملون في وظائف دائمة في شركات مستقرة، أما نسبة الـ40% منهم، فكانت هى الزيادة التى قسمت ظهر البعير.

وعلى هذا، فإن أزمة النازحين السودانيين أثرت فى الاقتصاد المصرى بعدة طرق. فهؤلاء القادمين فروا من السودان إلى بلد متضرر من الاصلاحات الاقتصادية، ويتعافى من تأثير جائحة كورونا، ويتجه قدما نحو تنفيذ خطته التنموية 2030. وبالنظر لخطة الاستجابة المصرية للاجئين، والتي بلعت قيمتها 126 مليون دولار، فسنجد بأنه لم يتم تمويلها إلا بنسبة 35%. وعلى هذا عبر بعض المسؤلين المصرين بأن مصر ستدعم أولئك الذين يسعون فقط للحصول على حق اللجوء والكفالة الدولية، كونها لا تتلقى الدعم الدولي الذي كانت تتوقعه، وأنها ترغب في قيام هرلاء بتحمل المسؤولية وتقاسم الأعباء. ومن ثم راحت بعدها تفرز اوضاع هؤلاء القادمين وتكيف وجودهم، فأصدرت مرسومًا يحدد موعدًا نهائيًا في الثلاثين من يونيو2024، بأنه يجب على جميع اللاجئين الذين دخلوا مصر بشكل غير قانوني، بما في ذلك الذين دخلوا قبل متطلبات التأشيرة، وأولئك الذين انتهت إقامتهم، دفع غرامة قدرها 1000 دولار. وأصبح لزاماً على جميع السودانيين، بغض النظر عن العمر والجنس، أن يكون لديهم وثيقة سفر صالحة، وأن يتقدموا بطلب للحصول على تأشيرة.

ومن هذا التاثير الاقتصادى غير المباشر، هو تفضيل أصحاب العقارات المصريين لتاجير عقاراتهم للمغتربين، فكان هذا سببا رئيسيا فى كراهية البعض لهم. حيث ينظر أصحاب العقات للمغتربين على أنهم يتمتعون بقدر أكبر فى الوصول للعملات الأجنبية مقارنة بنظرائهم المصريين. فأدى هذا إلى زيادة الطلب على الخدمات التي تلبي تدفق الأجانب، مما تسبب بدوره في ارتفاع أسعار الإيجارات، مع تأثر الأسعار بشكل متزايد بسعر صرف العملات الأجنبية.

وهذا لا يمنع وجود تفسيرات سودانية تقول بأنه تم استخدام الشعب السوداني في مصر ككبش فداء لصرف الانتباه عن أزمات البلاد. وأن الاقتصاد المصري هو مريض بالأساس، وهو الذى أدى إلى زيادة تكلفة المعيشة على الجميع، مع بقاء معظم الوظائف منخفضة الأجر وفرص العمل الجديدة نادرة. بالإضافة إلى ذلك، تم إلقاء اللوم في ارتفاع أسعار الإيجار على المجتمع السوداني، بما أدي إلى تصاعد التوترات مع مواطني البلاد وسكانها. لكن يتفق الحميع بأن الخدمات في مصر كانت مرهقة بالفعل قبل وصول أعداد كبيرة من السوداني، وبأنها زادت من الضغوط على أنظمة الصحة والتعليم بعد مجيئهم. وعلى هذا كان التدفق الكبير في فترة تعانى منها مصر قد أحدث مشكلة اقتصادية كبيرة، ضاعفتها حرب غزة على حدودها الشرقية. ومع هذا يظل ما أوردناه سابقا جانبا من الصورة وليس كل الصورة، حيث يصعب رصد كل مؤشرات التأثير الاقتصادية بدقة، لأنها لازالت تتفاعل ويصعب في بعض الحالات تقديرها، أو يتم تأجيل الكلام عنها لمكانة السودان في نظر مصر، ومكانة السودانيين لدى المصريين.

الكاتب/د.أحمد عبدالدايم، أستاذ التاريخ السياسى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.