تحالف الشرق: هل تتآمر الصين وروسيا وكوريا الشمالية ضد الولايات المتحدة؟

33

كتبت: هدير البحيري
في مشهد يعكس عمق التحولات الاستراتيجية في موازين السياسة الدولية، تحولت ساحة “تيانانمن” في قلب بكين إلى مسرح مفتوح لاستعراض القوة العسكرية والدبلوماسية للصين، في الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية.
لم يكن العرض مجرد احتفال تاريخي، بل رسالة مدروسة إلى الداخل والخارج: داخليًا لتعزيز الروح القومية ودعم الحزب الشيوعي في مواجهة تحديات اقتصادية متصاعدة، وخارجيًا لتأكيد أن بكين لم تعد لاعبًا إقليميًا فقط، بل قوة عظمى تشكل تحالفاتها وتعيد رسم توازنات المشهد العالمي.
شهدت العاصمة الصينية بكين عرضًا عسكريًا ضخمًا في ساحة “تيانانمن”، أشرف عليه الرئيس الصيني شي جين بينغ، وجمع في صفوفه أبرز حلفاء بكين من قادة العالم، في مشهد حمل رسائل عسكرية وسياسية متعددة الاتجاهات.
وتوسط الرئيس الصيني شي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، في سابقة تعكس مستوى التنسيق المتنامي بين القوى الثلاث في مواجهة التحالفات الغربية، كما حضر العرض الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان، إلى جانب عشرات القادة والمسؤولين الدوليين.
وجاءت المراسم، التي أقيمت لإحياء الذكرى الـ80 لانتهاء الحرب العالمية الثانية والانتصار على اليابان، لتتحول إلى منصة لإبراز القوة العسكرية الصينية وتعزيز صورة شي كزعيم يجمع حوله حلفاء يربطهم العداء أو التنافس مع الغرب.
وفي كلمة افتتاحية، حذر الرئيس الصيني شي من أن العالم “ما زال يواجه خيارًا بين السلام والحرب”، مؤكدًا في الوقت نفسه أن الصين “لا يمكن وقفها”.

شارك في العرض أكثر من 40 ألف جندي ومدني، في استعراض ضخم مر عبر الطريق المركزي “تشانغ آن” وصولًا إلى ساحة “تيانانمن” ومدخل المدينة المحرمة، ليجسد مزيجًا من القوة العسكرية والرمزية التاريخية، وسط إجراءات أمنية مشددة فرضتها السلطات في بكين.
وشملت قائمة الحضور قائد المجلس العسكري الحاكم في ميانمار مين أونغ هلاينغ، ورئيس الكونغو دنيس ساسو نغيسو، إضافة إلى الحضور اللافت لرئيس وزراء سلوفاكيا روبرت فيتسو، زعيم دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، المعروف بانتقاداته المتكررة للدعم الغربي لأوكرانيا وسعيه لتعزيز علاقات بلاده مع بكين.
وقد صرح فيتسو، عقب لقائه الرئيس الروسي بوتين الثلاثاء، بأن عضوية أوكرانيا في الناتو “غير مقبولة”.
ويرى مراقبون أن حضور قادة من 11 دولة من أصل 14 تحد الصين، بينها منغوليا ولاوس ونيبال، يعكس المكانة الإقليمية المتنامية لبكين، ويؤكد موقعها كقوة عظمى في آسيا، بحسب نيل توماس، الزميل في مركز تحليل السياسات الصينية التابع لمعهد “سياسات المجتمع الآسيوي”.
واستخدم الحزب الشيوعي الصيني المناسبة لتقوية الحس القومي وتعزيز المواقف المناهضة لليابان.
فقد رُوجت أفلام وطنية تركز على وحشية الجيش الإمبراطوري الياباني، وامتلأت دور السينما بالجمهور، ما مهد لتلقي رسالة الرئيس الصيني شي السياسية.
ويخدم ذلك أهداف القيادة الصينية في حشد الدعم الداخلي لمواجهة تحديات اقتصادية متفاقمة، تشمل ركودًا ممتدًا وبطالة مرتفعة بين الشباب، إلى جانب التوتر المتصاعد مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وتسعى الصين من خلال إعادة صياغة رواية الحرب العالمية الثانية إلى التأكيد على “الدور الأكبر” الذي لعبته في هزيمة اليابان، وهو دور ترى بكين أنه لم يُعترف به في الغرب.
ويخدم ذلك هدفين استراتيجيين: أولًا، ترسيخ صورة الحزب الشيوعي باعتباره “منقذ الأمة” رغم أن المؤرخين يشيرون إلى أن القوميين الصينيين خاضوا معظم المعارك، وثانيًا، دعم مطالب الصين بأراضٍ – وفي مقدمتها تايوان – تعتبر أن القوى الغربية حرمتها منها عقب الحرب.

وخلال الاستعراض، عرضت الصين أحدث ترسانتها العسكرية التي تعكس حجم استثماراتها الدفاعية، إذ خصصت نحو 186 مليار جنيه إسترليني لميزانية الدفاع لعام 2025.

أبرز الأسلحة التي ظهرت في العرض

صواريخ فرط صوتية “واي جي”:* YJ-15، YJ-17، YJ-19، YJ-20. قادرة على الإطلاق من السفن والطائرات وإلحاق أضرار جسيمة بالسفن الكبيرة.

مركبات بحرية مسيّرة ضخمة:* AJX002 وHSU100، بطول نحو 18 مترًا، للاستطلاع وزرع الألغام، ضمن أكبر برنامج عالمي للمركبات غير المأهولة تحت الماء.

صواريخ باليستية عابرة للقارات (الثالوث النووي)* : DF-61، DF-31، DFC-5، JL-1 وJL-3، لتأكيد القدرات النووية البرية والبحرية والجوية.

نظام دفاع فضائي: HQ-29 لاعتراض وإسقاط الأقمار الصناعية الأجنبية.

أسلحة تعتمد على الليزر: أجهزة كبيرة محمولة على عربات، لضربات دقيقة منخفضة التكلفة وفعالية عالية.

مركبات وطائرات غير مأهولة: للاستخدامات الاستطلاعية ونقل الذخيرة والإجلاء وحرب الألغام.
*أنظمة رادار متطورة: أبرزها طائرة الإنذار المبكر KJ-600، متوقع دخولها الخدمة على متن حاملة الطائرات “فوجيان”.

أبرز ردود الفعل الدولية

أثارت العروض العسكرية الصينية موجة واسعة من ردود الفعل الدولية. ففي اليابان، تحول الحدث إلى مصدر توتر جديد مع بكين، بعدما قدمت الأخيرة احتجاجًا رسميًا على تقارير أفادت بأن طوكيو حثت شركاء أوروبيين وآسيويين على مقاطعة المناسبة، في خطوة اعتبرها مراقبون انعكاسًا لمخاوف اليابان من توظيف الصين للاستعراض لترسيخ نفوذها الإقليمي وإعادة صياغة رواية الحرب العالمية الثانية. وفي واشنطن، علق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على مشهد اصطفاف قادة الصين وروسيا وكوريا الشمالية، واصفًا إياه بأنه “تآمر ضد الولايات المتحدة”.
وكتب ترامب على منصته (تروث سوشيال) موجهًا حديثه إلى شي جين بينغ: “أتمنى لك وللشعب الصيني يومًا عظيمًا من الاحتفال، وأرجو أن تُبلغ تحياتي لفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون، لأنكم تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأمريكية”. ولم يخلُ تعليقه من التذكير بدور واشنطن التاريخي في الحرب العالمية الثانية، إذ شدد على أن “العديد من الأمريكيين لقوا حتفهم في سعي الصين نحو النصر والمجد”، في محاولة لتصوير بكين كـ”ناكرة للجميل”.
أما في تايوان، فقد حظي العرض بمتابعة لافتة عبر القنوات المحلية، وأثار ردود فعل متباينة بين المواطنين؛ فبينما أبدى بعضهم إعجابًا بالأسلحة المتطورة، سخر آخرون من بكين.
سياسيًا، أدان حزب التقدم الديمقراطي الحاكم الاستعراض، واعتبره تجسيدًا لـ”طموحات الحزب الشيوعي” أكثر من كونه احتفالًا بالسلام، فيما اتهمت إدارة شؤون الصين التابعة للحزب بكين بـ’التطرف العسكري”، محذرة من أن تكرار تدريبات جيش التحرير الشعبي في مضيق تايوان وبحار المنطقة يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي. كما رفضت الإدارة رواية بكين لدورها في مقاومة اليابان، ووصفتها بأنها “تشويه للتاريخ يهدف إلى إسكات أصوات التايوانيين”.

قراءة في دلالات العرض الصيني العسكري

قال الباحث في الشؤون الآسيوية محمد صلاح الدين، في حوار خاص لـ”نافذة الشرق”، إن مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون إلى جانب الرئيس الصيني شي جين بينغ في العرض العسكري الأخير، تحمل دلالة واضحة على تقارب أو ما يمكن تسميته بـ”تحالف الضرورة” في مواجهة التحالف الكوري الجنوبي ـ الأمريكي ـ الياباني.
وأوضح صلاح الدين أن المناسبة، المرتبطة بالانتصار على اليابان، تكتسب أهمية خاصة لكوريا الشمالية التي تسعى عبر حضورها في حدث يضم عددًا من القادة الدوليين لاستعادة حضورها في الدبلوماسية متعددة الأطراف، مضيفًا أن ذلك يأتي في وقت باتت فيه بيونغ يانغ تجد مساحة أكبر للتفاعل الدولي بعد نحو أربعين عامًا من الأحادية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، التي لا تزال تعتبرها عدوًا تاريخيًا.
ويرى صلاح الدين أن الاستعراض العسكري الصيني لا يمكن فهمه دون النظر إلى الوعي الجمعي الصيني ونظرة الأمة للغرب، فكل خطوة لبكين أمام الكتلة الغربية تحمل إرث “قرن الإذلال” (1849–1949)، الذي شهد أضعف مراحل الصين وانقسامها بين القوى الغربية.
ومن هذا المنطلق، يرسل العرض العسكري رسالة واضحة مفادها أن الصين لن تُذل مرة أخرى، وأن تاريخ هذا القرن يشكل دافعًا مستمرًا لتحركاتها الاستراتيجية في القضايا الإقليمية والدولية، بما في ذلك تعزيز موقعها العسكري وإعادة صياغة توازن القوى في مواجهة النفوذ الغربي.
وفي ما يتعلق بإثبات القوة العسكرية، أكد الباحث في الشؤون الآسيوية أن الصين لم تنتظر العرض العسكري لتظهر تفوقها، بل أثبتت ذلك في تجارب سابقة عبر الأسلحة التي زودت بها باكستان خلال اشتباكاتها مع الهند، ما جعل هذه الأسلحة محط أنظار دول عديدة تسعى للحصول على بدائل عن السلاح الأمريكي، خصوصًا مع الأسعار الأقل والقيود الأخف مقارنة بواشنطن.

وحول تأثير الاستعراض على موازين القوى، شدد صلاح الدين على أن القضية ليست مجرد عرض عسكري، بل تعبير عن رغبة بكين في فرض حضورها الاستراتيجي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي تمثل مجالها الإقليمي الحيوي وتؤثر بشكل كبير على حركة التجارة العالمية.

وقال صلاح الدين إن الاصطفاف الثلاثي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية قد يشكل بداية لتحولات بنيوية في النظام الدولي، لكن من المبكر وصف هذه التغيرات بأنها تعددية قطبية مكتملة الأركان. ورغم أن موسكو وبكين مرشحتان لتشكيل قطبين أساسيين في هذا النظام الجديد، فإن المشهد لا يزال في طور التشكل.

وأضاف صلاح الدين أنه من غير المرجح أن نشهد مواجهة مباشرة بين هذا التكتل وواشنطن في الوقت الحالي، مشيرًا إلى أن الصين لم تتدخل عسكريًا لا في أوكرانيا ولا في غزة، ما يعكس وعيها الكامل بمخاطر الانزلاق إلى صراع مفتوح مع الغرب.

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.