تحديات الحكومة المصرية الجديدة وتوصيات لها

6

  كما يقال فى المثل “كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها”، ونحن فى مصر نسحتق الحكومة الأفضل دوما، لكنها لم تأت حتى الاّن. فاَمالنا كمصريين عريضة، وطموحاتنا بعد ثورتين كبيرة، لكن الظروف مقيدة. وربما كانت حكومة مصطفى مدبولى الأولى، والتى جائت عقب تأدية الرئيس عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية لفترته الرئاسية الثانية في 2 يونيو 2018، قد حققت بعض الإنجازات المهمة، خاصة البدء فى مشروع حياة كريمة وتطوير الريف المصرى والتخلص من الفيروس الكبدى سى، إلا أن وباء كورونا وبعض الأزمات السياسية الأخرى قد أعاقت تلك الإنجازات وعطلتها. فاستقالت هذه الوزارة الأولى في 3 يونيو 2024 عقب انتهاء الانتخابات الرئاسية في 18 ديسمبر 2023 وأداء الرئيس عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية لفترة رئاسية ثالثة في 2 أبريل 2024. فتم تكليف الدكتور مصطفى مدبولي من جديد بتشكيل حكومة ثانية، أدت اليمين الدستورية في 3 يوليو 2024. وإذا كان حديثنا بالأساس ينصب حول هذه الحكومة الجديدة، فأفضل حكومة قى تقديرى هي تلك التي يوجد فيها أقل عدد من الأشخاص عديمي الفائدة. وبطبيعة الحال لا يمكننا الحكم على شخوص وزرائها رغم ما قيل عن بعضهم عند توليتهم للمنصب، حيث تم التشكيك فى شهادات البعض، والطعن فى آلية وصول البعض. لكن فى النهاية قبل النظام السياسى التحدى، وحظيت الحكومة على دعم البرلمان، وانطلقت فى مهامها تواجه التحديات القائمة وتتطلع لتحقيق ما فشلت فيه الحكومة السابقة.  وربما كان وجود مدبولى على رأسها يعنى أن النظام قد أتاح له الفرصة مرة أخرى، مع شخصيات جديدة فى كثير منها، ليختبر الإرادة والعزيمة، وليتعلم الرجل من أخطاءه السابقة ما دامت أعطيت له الفرصة للنهوض وعدم الوقوع. وليعلم بأن السلطة  كالبحر تغريك بالاقتراب من عينيها الزرقاوين ثم تتركك تغرق بأمواجها إذا كنت لا تجيد السباحة وتجهل فن العوم. فكما يقول المثل أصدقاء السياسة أعداء عند الرياسة. وهى دعوة للعمل وحث على النجاح واستثمار الفرص.  

ومن حسن حظّ الحكومات أنّ الناس لا يفكرون، وغير منشغلين إلا بتدبير احتاجاتهم وملء بطون أولادهم. ومن ثم فإن الغضب على حكومة مدبولى الأولى قد أنصب على إعادة تعيين شخص رئيس الوزراء مرة ثانية وفقط. وعلى هذا تمسك الكثيرون بالأمل وبأن الرجل سيغير ما كان يؤلمهم فى ظل فترته السابقة. وكان وعد الحكومة الجديدة بخفض العجز الكلي في الموازنة والدين العام مع تحقيق فائض، من خلال الحفاظ على الاستقرار المالي المتوازن في ظل الأزمة التى تعيشها البلاد، أولى أهدافه الجديدة. وعبرت الحكومة بأنها ستقدم الدعم للقطاعات الإنتاجية الأكثر تضرراً من الأزمات الاقتصادية، وستعمل على تحسين جودة البنية الأساسية، وتحافظ على سياسات تسعير عادلة للسلع والخدمات.  وتعهدت أيضا بإنهاء مشكلة انقطاع التيار الكهربائي خلال ستة أشهر، وخفض الأسعار والتضخم، والسيطرة على الأسواق، ونجحت فى الأولى بخصوص الكهرباء وأخفقت فى مسألة الاسعار وخفض التضخم لأرتفاع سعر الدولار. فمهما حاولت الحكومة فى هذا الامر جاء التزامها بقرار صندوق النقد الدولى بتعويم الجنية المصرى متسببا فى عدم ضبط الأسواق وعدم القدرة على السيطرة عليها.

صحيح أن السلطات المصرية وسعت من أجندة الإصلاح الهيكلي في إطار برنامجها الحكومى، فبادرت إلى تنفيذ إصلاحات لتحسين كفاءة تخصيص الأراضي، وتعزيز المنافسة والمشتريات العامة، وتحسين شفافية الشركات المملوكة للدولة، ومعالجة الفساد، إلا أن غلق مجال الاسكان ورحيل المقاولين عن أعمال البناء الأهلى، بسبب قيود البناء وانصراف العمالة عن هذا المجال، جعل المستفيدين من هذا القطاع، يقفون على أبواب الحكومة طالبين العمل والأعمال والسكن والإقامة، فتضاعفت أزمة الحكومة الجديدة وتعمقت. ولولا أنها عادت عن قراراتها السابقة فى البناء لكان هذا القطاع قد تدمر وانتهى. ومع ذلك تظل عودة هؤلاء المستفيدين مقيدة بمدى صدق الحكومة فى عودتها. فغول الفساد الذى سيطر على عالم البناء السفلى بالرشاوى فى المحليات لكفيل بأن يعطل هذه العودة ببيروقراطيته ويجهضها.

ولسوء حظ الحكومة الجديدة أن لديها شبكة معقدة من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، والديناميكيات السياسية، والصراعات الإقليمية. ومع ذلك يكافح الناس مع حياتهم فى ظل ارتفاع التضخم، وانخفاض قيمة العملة، وعبء الديون المتزايد، وانخفاض دخل قناة السويس بسبب تداعيات الصراع في غزة والاضطرابات في البحر الأحمر وحرب السودان. وعلى الرغم من الجهود المتضافرة لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية وتأمين المساعدات الأجنبية، فإن الشكوك لا تزال قائمة بين المستثمرين، مما يعيق مسار مصر نحو التعافي. وعلى الصعيد الاقتصادي، تواجه مصر مهمة شاقة تتمثل في تحقيق التوازن بين تعزيز المالية العامة والدعم المستهدف للسكان الفقراء. ولهذا تهدف حزمة الحماية الاجتماعية التي تقدمها الحكومة إلى التخفيف من تأثير ارتفاع الأسعار والأجور الراكدة، ولكن الإصلاحات البنيوية ضرورية لمعالجة القضايا النظامية مثل الفساد والإنفاق العام غير الفعّال. ولعل التحديات التي يفرضها النظام المالي للبلاد في وقت تتراجع فيه عائدات السياحة، وتتراجع فيه التحويلات المالية من العمالة المصرية بالخارج، وترتفع فيه أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية في الأسواق العالمية، يشهد بطبيعة التحديات التى تعانيها حكومة مدبولى الجديدة وصعوبة نجاح خطتها بالكامل.

على أية حال حققت الحكومة الجديدة بعض الإنجازات فى مجال الاستثمار وقدمت بعض تسهيلات السكن للمواطنين ونفذت بعضا من مخرجات الحوار الوطني. فأعلن الرئيس عن رفع عددا من المدرجين على قوائم الارهاب، وساعدت الدولة فى حل بعض مشاكل الغارمين، وأخرجت بعض العتقلين، وتشاورت مع عشرات الخبراء الاقتصاديين لإصلاح نظام الدعم، وكان هناك إجماع بينهم على ضرورة التحول من الدعم العيني إلى الدعم النقدي. حيث أوضح مدبولي الحاجة إلى دراسة متأنية لتقسيم الدعم بحيث يحصل بعض المستفيدين على سلع مدعومة بنسبة 100%، وآخرون بنسبة 70% أو 50%.. وهذا سيستغرق وقتا وسينتهى الأمر بما انتهى له القرار فى بطاقات التموبن. فالذين أخرجتهم الحكومة من الدعم فى فترة سابقة يحاتجون الدعم الاَن بما يزيد عن السابق.

 والنقطة الأبرز نجاحا فى مسار الحكومة الجديدة هى استكمال نجاحاتها على مستوى الأمن القومى وسياسة مصر الخارجية، فقد أولت وزارة مدبولى والرئيس عبدالفتاح السيسى عناية فائقة بملف غزة والسودان وليبيا، فدخلت فى وساطات متعددة، وحاولت قدر جهدها فى الحفاظ على أمنها القومى. بل شاركت مصر فى قمة العشرين المنعقدة فى البرازيل، وفى قمة بريكس بروسيا، والقمة العربية والإسلامية، وحافظت على وجودها الفاعل فى المحيط الاقليمى والدولى. وشهدت مصر تغييرًا في اتجاهات استيراد الأسلحة، حيث انتقلت من كونها ثالث أكبر مستورد على مستوى العالم إلى السابعة. وتزامن ذلك مع عمليات الاستحواذ التي تهدف إلى تعزيز القدرات العسكرية بعيدة المدى، بما في ذلك الدبابات والغواصات والطائرات المقاتلة والصواريخ، وكان من أبرز الموردين ألمانيا وإيطاليا وروسيا وفرنسا والولايات المتحدة والصين. وكثفت الدولة جهودها في مجال الاستثمار في الطاقة المتجددة واستراتيجيات التكيف مع المناخ.

 وتبقى هناك عدة توصيات نهمس بها فى أذن هذه الحكومة لأننا نعول على نجاحها، ففشلها فشل لنا جميعا، ونجاحها هو نجاح لمصر وللمصريين. وأول هذه التوصيات، أن تعمل الحكومة بقوة على ملف البطالة وإيجاد عمل لهؤلاء العاطلين، حتى لا يتجهوا لبدائل خاطئة تضر بالجميع. وثانيا، توطين الشباب فى المدن الجديدة وفى سيناء وزيادة برامج التوعية والتثقيف والوعى بالوطن وغرس الانتماء فى صدور الأجيال الناشئة. وثالث التوصيات، تحتاج زيادة إمدادات الطاقة المتجددة إلى تعبئة تمويلية كبيرة ومشاركة القطاع الخاص. ورابع التوصيات، إيجاد تمويلات بديلة لحصة توليد الكهرباء من مصادر متجددة إلى 42٪ بحلول عام 2030، سواء باستخدام السندات الخضراء والقروض الميسرة، فضلاً عن جذب الاستثمار الخاص من خلال اتفاقيات شراء الطاقة طويلة الأجل. وخامس هذه التوصيات، يجب معالجة الفساد بشفافية ودون خوف أو وجل، وتحسين المشتريات العامة، والحد من هيمنة القطاع الخاص على السوق الداخلى والاحتكار. خاصة وأن المتوقع على مدى السنوات الثلاث المقبلة أن ينضم نحو 3.5 مليون شاب مصري إلى قوة العمل، إضافة إلى المنضمين لتعداد البطالة من قبل. وبطبيعة الحال سيكون استيعاب هؤلاء الوافدين الجدد إلى سوق العمل تحدياً كبيراً. لكن إذا تمكنت الحكومة من دعم قطاع خاص قوي لتشغيل قوة العمل الجديدة على نحو منتج والتأمين عليهم، فسيخلق هذا نوعا من الإنصراف عن وظائف الحكومة التى يعيش غالبية الناس على أمل الحصول عليها.

الكاتب/ د.أحمد عبدالدايم، أستاذ التاريخ السياسى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.