ترامب بين الترغيب والترهيب: صفقات سريعة تربك الحلفاء وتقوض الثقة في الاقتصاد الأمريكي
كتبت: هدير البحيري
بين التصعيد والتراجع، وبين التهديدات العلنية والوعود بصفقات كبرى، يمضي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في رسم سياسات التجارة الدولية بأسلوب يوصف بأنه شديد التقلب لكنه محسوب، قائم على الضغط والإرباك والمساومة.
من أوروبا إلى اليابان، مرورًا بالهند والصين، لا يكاد يمر أسبوع من دون إعلان عن مفاوضات عسيرة أو صفقة وشيكة، في مشهد يترك حلفاء واشنطن أمام خيارات صعبة، ويهدد استقرار العلاقات التجارية طويلة الأمد.
في أحدث تصريحاته بشأن العلاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، أعلن ترامب أن هناك “فرصة بنسبة 50%” – وربما أقل – للتوصل إلى اتفاق بشأن خفض الرسوم الجمركية.
ويأتي هذا الحديث بعد تهديدات متكررة بفرض رسوم تصل إلى 30% على واردات أوروبية، ما لم يحسم الاتفاق قبل نهاية يوليو.
بالرغم من حصول المفوضية الأوروبية على تفويض لبدء مفاوضات تهدف إلى تجنب الرسوم الأمريكية، أعلنت بروكسل استعدادها للرد بإجراءات انتقامية قد تتجاوز قيمتها 109 مليارات دولار، على أن تبدأ في 7 أغسطس إذا لم تسفر المحادثات عن نتائج ملموسة.
وفي الوقت نفسه، تشير تسريبات دبلوماسية إلى أن واشنطن تسعى لفرض ضريبة أساسية بنسبة 15% على سلع أوروبية، مع استثناءات محدودة لقطاعات حيوية، ما اعتبرته بعض الأطراف الأوروبية نوعًا من “الابتزاز التجاري”.
قبل أيام فقط، وصف ترامب المفاوضات مع اليابان بأنها “شاقة للغاية” واستبعد إبرام أي صفقة قريبة. لكن سرعان ما أعلن الرئيس الأمريكي التوصل إلى “أكبر اتفاقية تجارية في التاريخ” مع طوكيو.
تشمل الصفقة الجديدة استثمارات يابانية ضخمة بقيمة 550 مليار دولار في السوق الأمريكية، وفرض رسوم جمركية بنسبة 15% على صادرات يابانية، مقابل فتح السوق اليابانية أمام المنتجات الزراعية والسيارات الأمريكية.
وكانت التهديدات الأمريكية السابقة تشمل رسومًا تصل إلى 25% على السيارات اليابانية، وهو ما يكشف بوضوح أسلوب الضغط المسبق الذي يعتمده ترامب لتحقيق مكاسب تفاوضية.
على النقيض من الخطاب الإيجابي، الذي تبناه ترامب تجاه الهند، انتهت المفاوضات الثنائية بين الطرفين دون اتفاق، بعد أن غادر الوفد الهندي واشنطن بشكل مفاجئ.
ورغم تعهده بأن “فتح السوق الهندية بات قريبًا”، فإن خلافات حادة بشأن الرسوم الجمركية وقيود دخول بعض السلع الأمريكية ظلت حجر عثرة أمام أي تقارب اقتصادي حقيقي، ما يعكس محدودية تأثير اللهجة الودية في ظل غياب حلول عملية للخلافات البنيوية.
في الملف الصيني، تبرز ازدواجية لافتة في مواقف ترامب. فمن جهة، أشاد بخطوات بكين للحد من تصدير الفنتانيل إلى الولايات المتحدة، وتحدث عن اتفاق تجاري “إطاري” قيد الإعداد.
ومن جهة أخرى، تمضي الإدارة الأمريكية في إجراء مناورات عسكرية موسعة مع دول آسيوية وتشييد قواعد جديدة، ما أثار توترًا متصاعدًا في بكين.
وبحسب تقارير صحفية، فإن واشنطن لم تلتزم حتى الآن بتخفيضات جمركية وعدت بها سابقًا، ما دفع الصين إلى التلويح بتقييد تصدير المعادن الأرضية النادرة، وهي عنصر حيوي لصناعات التكنولوجيا الأمريكية.
ويتوقع أن تستأنف المحادثات بين الجانبين خلال شهري أغسطس وسبتمبر، لكن الشكوك لا تزال تحيط بفرص التوصل إلى تفاهم شامل، في ظل استمرار مناخ عدم الثقة المتبادل.
في مواجهة التصعيد الأمريكي، أعلنت المفوضية الأوروبية أنها تدرس تفعيل آليات مضادة تسمح للاتحاد بتقييد دخول الشركات الأمريكية إلى العطاءات العامة، وفرض قيود على قطاعات خدمية محددة، ضمن ما يعرف بقوانين “مكافحة الإكراه التجاري”.
قالت رئيسة المفوضية، أورسولا فون دير لاين إن دولًا كبرى، بينها ألمانيا، باتت تميل إلى هذا التوجه، بينما أكد المستشار الألماني، فريدريش ميرتس أن “المفاوضات بشأن الرسوم الجمركية شديدة الحساسية، وأن الأمريكيين لا يبدون استعدادًا لاتفاقات متوازنة”.
تقدم تصريحات وزير الخزانة الأمريكي، سكوت بيسنت تفسيرًا لنهج ترامب القائم على المفاجآت والتبدل المستمر، إذ قال إن “الرئيس لديه خطة، لكنها ليست واضحة دائمًا”، مشددًا على أن الأمور “لا تترك للصدفة”.
هذا التصريح يعزز الرؤية التي ترى في سلوك ترامب نمطًا تفاوضيًا متعمدًا قائمًا على الإرباك والضغط، لدفع الأطراف الأخرى إلى القبول بشروط لا تستطيع فرضها في السياق التقليدي.
وقد تعهدت إدارة ترامب بإبرام “90 صفقة خلال 90 يومًا”، لكن حتى الآن لم تعلن سوى خمس اتفاقات، ما يثير تساؤلات حول جدية هذه الوعود وواقعيتها.
مع اقتراب الموعد النهائي الذي حدده ترامب بنهاية يوليو، تجد عواصم عدة نفسها أمام معضلة: إما الانصياع لشروط أمريكية قاسية، أو مواجهة رسوم جديدة في سياق يتسم بالضبابية.
وفي ظل تعدد الرسائل المتناقضة – من التهديد بالعقوبات إلى التبشير باتفاقات “تاريخية” – تتصاعد الشكوك حول مدى مصداقية السياسة التجارية الأمريكية، وإلى أي حد يمكن الوثوق في استمراريتها، خصوصًا مع دخول واشنطن مرحلة ما قبل الانتخابات.
وبينما يحقق ترامب بعض المكاسب السريعة على المدى القصير، فإن التكلفة الاستراتيجية على صورة الولايات المتحدة كحليف تجاري موثوق قد تكون باهظة على المدى الطويل.
ويرى الخبير في الشؤون الآسيوية والباحث في الشؤون الدولية، إسلام شحتة، أن النهج المتقلب الذي يتبعه دونالد ترامب في التفاوض التجاري، والذي غالبًا ما يتخلله تهديدات متكررة بفرض رسوم جمركية باهظة، أدى إلى تآكل تدريجي في ثقة الشركاء التجاريين بالاقتصاد الأمريكي.
ويشير شحتة، في حوار خاص لـ”نافذة الشرق” إلى أن هذا النمط من السلوك تسبب في زيادة حادة في معدلات تقلب الأسواق العالمية، وخلق مناخًا من عدم اليقين ألقى بظلاله على حركة رؤوس الأموال والتجارة.
فقد أظهر التقرير السنوي لبنك التسويات الدولية لعام 2025 أن حالة “عدم اليقين في السياسات التجارية” بلغت مستويات غير مسبوقة منذ عقود، ما أدى إلى “اضطرابات ملحوظة” في الأسواق المالية.
وفي السياق ذاته، حذر صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر في أبريل 2025 من أن المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالرسوم الجمركية وإعادة رسم خريطة التجارة قد تؤدي إلى تصحيحات حادة في أسعار الأصول وتدفقات استثمارية خارجة، بما يهدد الاستقرار المالي في المدى القصير والمتوسط.
وكمثال حي على ذلك، يشير شحتة إلى قرار ترامب في يونيو 2025 بمضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم من 25% إلى 50%، وهو ما تسبب في صدمة مباشرة للقطاع الصناعي الأوروبي، خاصة في صناعات حيوية مثل السيارات والمعدات الطبية والدوائية، ما أثار موجة من القلق في العواصم الأوروبية من تبعات نهج اقتصادي قائم على الوعيد أكثر من التعاون.
بحسب شحتة، فإن سياسات ترامب التجارية تستخدم في الأساس كورقة ضغط سياسي وليست وسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية شاملة.
ورغم أن الخطاب الرسمي لإدارة ترامب يروج لهذه السياسات باعتبارها في صالح “العمال الأمريكيين” وحماية “المنتج الوطني”، فإن الواقع الاقتصادي يظهر صورة مختلفة.
ويوضح شحتة أن عدة دراسات أمريكية مستقلة، من بينها تقارير مؤسسة الضرائب الأمريكية.
(Tax Foundation)، خلصت إلى أن معظم العبء الناتج عن فرض الرسوم الجمركية يقع فعليًا على المستهلك الأمريكي، وليس على المصدر الأجنبي المستهدف، وهو ما يضعف من الحجة القائلة بأنها سياسات “استرداد حقوق اقتصادية”.
فمثلًا، تظهر التقديرات أن الرسوم المقترحة من ترامب قد تؤدي إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنسبة تصل إلى 0.8%، حتى قبل ردود الفعل الانتقامية من شركاء واشنطن. كما تعد هذه الرسوم، وفق نفس المؤسسة، “أكبر زيادة ضريبية” تشهدها الولايات المتحدة منذ العام 1993، حيث يتوقع أن تزيد الإيرادات الفيدرالية بنحو 171 مليار دولار في 2025. ومع ذلك، فإن هذه الزيادة تأتي على حساب ارتفاع الأسعار للمستهلكين، ما يقلل من القوة الشرائية للأسر الأمريكية.
أما المكاسب في الوظائف، فهي محدودة ومكلفة للغاية، كما يوضح شحتة. ففي حالة قطاع الغسالات مثلًا، سجلت زيادة بنحو 1800 وظيفة، لكن الكلفة الفعلية لكل وظيفة وصلت إلى نحو 817 ألف دولار، أي أنها غير مستدامة على المدى الطويل، ولا تبرر الأعباء المترتبة على الاقتصاد الكلي.
يشير شحتة إلى أن الاستمرار في السياسات التجارية التصادمية من قبل الولايات المتحدة، خاصة تجاه شركاء رئيسيين مثل الاتحاد الأوروبي والهند، ينذر بمخاطر هيكلية كبيرة على سلاسل الإمداد العالمية. فالتعريفات الجمركية المرتفعة تمثل صدمة سلبية على جانب العرض، حيث ترفع تكلفة المدخلات والمكونات التي تدخل في الصناعات المعتمدة على شبكات إنتاج دولية معقدة، مثل السيارات والإلكترونيات والدواء.
ويحذر شحتة من أن هذا الخلل في سلاسل الإمداد قد يؤدي إلى تعطيل عمليات التصنيع، وزيادة كلفة الإنتاج، وارتفاع معدلات التضخم، وهو ما يضر أولًا وأخيرًا بالمستهلك النهائي. كما أن الطبيعة المفاجئة وغير المتوقعة للسياسات الأمريكية، خاصة في ظل عودة ترامب المحتملة، تربك خطط الشركات متعددة الجنسيات، وتقوض أنظمة “الإنتاج حسب الطلب” (Just-In-Time) ، التي تقوم على الاستقرار واليقين في الأسواق.
كما يشير إلى أن ردود الفعل الانتقامية من قبل الشركاء المتضررين قد تشعل موجة جديدة من الحروب التجارية، تضعف حركة التجارة العالمية وتهدد بتفكيك النظام التجاري المتعدد الأطراف القائم منذ عقود.
يرى شحتة أن تزايد السياسات الحمائية في الولايات المتحدة يعزز من الاتجاه لدى بعض الاقتصادات الآسيوية الكبرى، مثل الهند واليابان، نحو إعادة تموضع استراتيجي في تحالفاتها التجارية. فاليابان، رغم توقيعها اتفاقًا مع واشنطن لخفض الرسوم الجمركية إلى 15%، إلا أن حالة التردد والتهديدات التي سبقت التوقيع دفعت طوكيو للتفكير جديًا في تنويع شراكاتها التجارية، وخاصة مع الاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية الأخرى مثل كوريا الجنوبية وأستراليا.
أما الهند، والتي تواجه متوسط تعريفات يبلغ 26% على صادراتها إلى الولايات المتحدة، فقد بدأت بالفعل في تعزيز تحالفاتها مع الاتحاد الأوروبي، وتسريع اتفاقيات تجارية مع قوى أخرى.
ويشير شحتة إلى أن السلوك غير المتوقع من الإدارة الأمريكية يجعل الاعتماد الكامل على السوق الأمريكية أمرًا محفوفًا بالمخاطر، وبالتالي فإن الهند واليابان، وربما دول أخرى في جنوب شرق آسيا، ستسعى في السنوات المقبلة إلى تقوية صلاتها بشركاء أكثر استقرارًا مثل الاتحاد الأوروبي أو حتى الصين، رغم الخلافات السياسية، كجزء من استراتيجية “تعدد الشركاء” وتقليل الاعتماد على شريك تجاري واحد.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.