جريمة حرب مكتملة الأركان في غزة: الحصار والتجويع بلا ردع دولي

10

كتبت: هدير البحيري
يشهد قطاع غزة واحدة من أشد الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، وسط حصار خانق وحرب مدمرة دفعت بمقومات الحياة إلى حافة الانهيار.
لم يعد الجوع مجرد عارض، بل سلاح ممنهج يُستخدم لإخضاع أكثر من مليوني إنسان، نصفهم من الأطفال، يصطفون لساعات أمام مراكز الإغاثة في انتظار وجبة قد لا تأتي.
بدائل بدائية للبقاء وسط الجوع القسري
وتشير تقارير ميدانية إلى أن كثيرًا من العائلات تعتمد الآن على أوراق التين والخرشوف والأعشاب البرية، في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة. كما اضطر بعضهم إلى طحن الحبوب القاسية وأعلاف الحيوانات لاستخدامها كبدائل للطحين، وسط انعدام شبه كامل للمواد الأساسية.
ومع توقف محطات الكهرباء ونفاد الغاز المنزلي، عادت مواقد الحطب وأفران الطين إلى المشهد، رغم ما تسببه من مخاطر صحية واختناقات تنفسية، خصوصًا للأطفال وكبار السن. أما المياه النظيفة، فقد باتت منعدمة تقريبًا، ما يدفع السكان لاستخدام المياه المالحة أو الملوثة للطهي والشرب، وسط تحذيرات من تفشي الأمراض والأوبئة.

في أحد أكثر المشاهد إيلامًا، ظهرت طفلة لا يتجاوز عمرها خمس سنوات تأكل الرمل قرب خيمة نزوح، مستخدمة حجرًا كملعقة. وفي مشهد لا يقل قسوة، اضطر عدد من الصحفيين إلى شرب ماء مملح داخل المركز الإعلامي في مستشفى شهداء الأقصى، لمواصلة تغطية الأحداث تحت الحصار.
ووفق بيان صادر عن برنامج الأغذية العالمي، فقد بلغ الوضع الإنساني في غزة مستوى “غير مسبوق من التدهور”، مشيرًا إلى أن ثلث سكان القطاع يعانون من الجوع لعدة أيام، بينما يواجه نحو 90 ألف طفل وامرأة خطر سوء تغذية حاد.
وأعرب البرنامج عن قلقه من اعتداء الجيش الإسرائيلي على مدنيين كانوا ينتظرون المساعدات، ما أسفر عن سقوط ضحايا، رغم تعهدات تل أبيب بتأمين مرور القوافل الإنسانية دون تدخل عسكري.
في تطور يفاقم أزمة العمل الإنساني، قررت إسرائيل عدم تمديد تأشيرة رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) جوناثان ويتال، بعد تصريحاته، التي وصف فيها ما يحدث في غزة بأنه “مجزرة” تُستخدم فيها المجاعة كسلاح ضد المدنيين.
في السياق نفسه، أعلنت وزارة الصحة في غزة أن قوة إسرائيلية متخفية اختطفت مروان الهمص، مسؤول ملف المستشفيات الميدانية في القطاع، أثناء توجهه إلى مستشفى ميداني تابع للصليب الأحمر شمال رفح.
دعوات دولية متزايدة لوقف الحرب ورفع الحصار عن غزة
أصدر وزراء خارجية دول غربية، بينها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وأستراليا واليابان والدنمارك، بيانًا مشتركًا، الاثنين دعوا فيه إلى “إنهاء فوري للحرب” ورفع القيود، التي تفرضها إسرائيل على دخول المساعدات، محذرين من أن النموذج الحالي “خطير ويغذي عدم الاستقرار ويحرم سكان غزة من كرامتهم الإنسانية”.
وشدد البيان على معارضة أي تغييرات ديمغرافية أو جغرافية في الأراضي الفلسطينية، مع التأكيد على الاستعداد لاتخاذ مزيد من الخطوات لدعم وقف إطلاق النار وتمهيد الطريق لمسار سياسي شامل يحقق السلام للإسرائيليين والفلسطينيين والمنطقة بأسرها.
مصر: التهجير “خط أحمر” والعدوان تجاوز كل الحدود
من جانبه، أكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، الأحد، أن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة “خط أحمر، ولن يتم السماح به تحت أي ظرف من الظروف”.
وأشار عبد العاطي إلى أن العدوان الإسرائيلي على غزة والضفة الغربية “سافر وغير مقبول وتجاوز كل الحدود”، لافتًا إلى أن القطاع يواجه “مجاعة وكارثة إنسانية”.
اسكتلندا تطلب إجلاء أطفال جرحى من غزة للعلاج
وفي تحرك إنساني، دعت أسكتلندا، الأحد، بريطانيا إلى تنسيق عاجل لإجلاء أطفال فلسطينيين جرحى من غزة وتقديم الرعاية الطبية لهم داخل مستشفياتها.
وأكدت إدنبرة استعدادها لاستقبال عدد من الأطفال، الذين أصيبوا جراء القصف الإسرائيلي، معبرةً عن أسفها لعدم تلقي رد من لندن حتى الآن.

الأونروا: مليون طفل في غزة يواجهون الجوع وسوء التغذية يتفاقم

حذرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، الأحد، من أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تجوع مليون طفل في قطاع غزة، مطالبةً بفك الحصار والسماح لها بإدخال الأغذية والأدوية وجميع الاحتياجات المعيشية اللازمة لمواطني غزة، بشكل عاجل.
وكانت “الأونروا”، قد أعلنت من أن سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة قد تضاعف بين مارس ويونيو، نتيجة للحصار الإسرائيلي على قطاع غزة.
وأوضحت أن المراكز الصحية والنقاط الطبية التابعة لها، أجرت في هذه الفترة ما يقرب من 74 ألف فحص للأطفال للكشف عن سوء التغذية، وحددت ما يقرب من 5 آلاف و500 حالة من سوء التغذية الحاد الشامل، وأكثر من 800 حالة من سوء التغذية الحاد الوخيم.
ويأتي هذا التحذير في سياق أوسع عبرت فيه الأمم المتحدة عن قلق بالغ إزاء تدهور الوضع الإنساني، مؤكدةً أن المدنيين في غزة “يتضورون جوعًا” وأن الأوضاع بلغت مرحلة حرجة تتطلب تسريع دخول المساعدات دون عوائق.

مع تصاعد أعداد القتلى والمصابين.. النظام الصحي في غزة ينهار بالكامل

قالت وزارة الصحة الفلسطينية الاثنين، إن حصيلة ضحايا الحرب على القطاع ارتفعت إلى 59 ألفًا و29 فلسطينيًا، و142 ألفًا و135 مصابًا منذ السابع من أكتوبر 2023.
وأشارت في بيان إلى أن حصيلة الضحايا منذ استئناف الحرب في 18 مارس الماضي، بلغت 8 آلاف و196 فلسطينيًا، و30 ألفًا و94 مصابًا.
وقالت إن مستشفيات غزة استقبلت جثامين 99 فلسطينيًا من منتظري المساعدات خلال الـ24 ساعة الماضية، وأكثر من 650 مصابًا، ليرتفع إجمالي حصيلة ضحايا المساعدات ممن وصلوا إلى المستشفيات، إلى 1021 فلسطينيًا، وأكثر من 6 آلاف و511 مصابًا.
أطلقت وزارة الصحة في قطاع غزة، الأحد، نداء استغاثة عاجلًا، محذرة من تفشي المجاعة وتدهور كارثي في الوضع الصحي.
وأعلنت مصادر طبية فلسطينية نفاد جميع المواد الطبية والغذائية والوقود بالكامل، ما أدى إلى توقف تام للمستشفيات عن العمل في مختلف أنحاء القطاع.

إسرائيل تمنع الأمم المتحدة من أداء دورها وتفرض واقعًا ديمغرافيًا جديدًا

يُرجع الدكتور هاني الجمل، رئيس وحدة الدراسات الأوروبية والاستراتيجية بمركز العرب، الصمت الدولي تجاه ما يحدث في غزة إلى النفوذ الإسرائيلي داخل دوائر صنع القرار، خصوصًا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أن إسرائيل تمارس ضغوطًا مباشرة تُقيد المنظمات الدولية وتُضعف قدرتها على تنفيذ قراراتها.

وقال الجمل، في حوار خاص لـ”نافذة الشرق” إن ما يجري في غزة يندرج ضمن سياسة التهجير القسري، مشيرًا إلى دور الولايات المتحدة في تعطيل عمل المنظمات الإنسانية، وعلى رأسها “الأونروا”، لصالح كيانات بديلة مشبوهة مثل “مؤسسة غزة الإنسانية” التي أوقفت سويسرا التعامل معها بسبب شبهات فساد.

ويرى الجمل أن الأمم المتحدة تُمنع من أداء دورها، رغم مواقف أمينها العام أنطونيو جوتيريش، مستشهدًا بمنعه من دخول غزة عبر معبر العريش، بينما تفتقر المحكمة الجنائية الدولية لوسائل التنفيذ، رغم إصدارها مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين.

وحول دور المجتمع المدني، يوضح الجمل أن منظمات حقوق الإنسان الأوروبية تمارس ضغوطًا، لكنها تصطدم باتفاقيات ومصالح معقدة، مشيرًا إلى أن الاتحاد الأوروبي رغم إدراجه مستوطنين على قوائم الملاحقة، لا يملك أدوات ردع فعالة، كما فشلت محاولات كسر الحصار من قبل ناشطين دوليين.
ويؤكد الجمل أن تكدس المساعدات في العريش يفضح تعنت إسرائيل في استخدام التجويع كسلاح لفرض واقع ديموغرافي جديد في غزة، محذرًا من أن ما يحدث ليس تصعيدًا مؤقتًا، بل تمهيد لإعادة تموضع إستراتيجي في غزة والضفة، ضمن مشروع أوسع لإعادة تشكيل خريطة المنطقة.
ويُشير الجمل إلى أن التقاء المصالح الإسرائيلية والأمريكية في إطار مشروع “الشرق الأوسط الجديد” يجعل من الصعب إحداث تغيير فعلي دون ضغط اقتصادي يطال مراكز النفوذ العالمية، محذرًا من أن استمرار العجز الدولي سيبقي الفلسطينيين وحدهم في مواجهة كلفة هذا الصمت الفادح.

مؤرخ إسرائيلي: إسرائيل ترتكب جريمة ضد الإنسانية في غزة

وصف البروفيسور أومير بارتوف، أحد أبرز خبراء الإبادة الجماعية والهولوكوست، الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة بأنها تحمل “سمات الإبادة الجماعية”.
وفي مقال بصحيفة نيويورك تايمز بعنوان “أنا خبير في الإبادة الجماعية وأعرفها حين أراها”، أشار بارتوف إلى خلفيته كابن لعائلة صهيونية وضابط سابق بالجيش الإسرائيلي، وتحوله لاحقًا إلى توثيق جرائم الحرب.
وأوضح أن التدمير الواسع للبنية التحتية، والتجويع، والتهجير الجماعي، والتصريحات الداعية إلى “محو غزة”، كلها مؤشرات تندرج ضمن تعريف الإبادة الجماعية في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1948، والتي تنص على “النية في التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو دينية”.
وأكد المؤرخ البارز أنه ليس الوحيد، الذي يرى في ما يجري بغزة جريمة إبادة جماعية، مشيرًا إلى توافق عدد متزايد من خبراء القانون الدولي مع هذا التوصيف، من بينهم فرانشيسكا ألبانيز (المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين)، والأكاديمي الكندي ويليام شاباس، وهو من أبرز المختصين في القانون الجنائي الدولي.

ما المقصود بالتجويع كسلاح حرب؟

يُعرف التجويع كسلاح حرب بأنه استخدام متعمد لتجويع السكان المدنيين بهدف الضغط على الخصوم سياسيًا أو عسكريًا، عبر حرمانهم من الغذاء والماء، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني. وتشمل هذه الممارسة منع أو تأخير المساعدات الإنسانية، وتدمير المحاصيل والبنية التحتية الزراعية، وتهجير المزارعين أو الاستيلاء على أراضيهم.

التجويع كسلاح ممنهج: وثائق أممية وشهادات تاريخية

رصدت تقارير مجلس حقوق الإنسان (2023–2024) استخدام التجويع كسلاح في نزاعات عدة، أبرزها غزة وتيجراي، من خلال منع الغذاء والدواء وعرقلة الإغاثة.
ويبرز الباحث أليكس دي وال، في كتابه المجاعة الجماعية، تحول الحصار إلى أداة استراتيجية في الحروب الحديثة، فيما تؤكد نعومي هوسكينج، في المجاعة كسلاح، أن التحكم في الغذاء يُستخدم للسيطرة السياسية.
وتشكل مجاعة “الهولودومور” في أوكرانيا مثالًا تاريخيًا مأساويًا، حيث حصدت ملايين الأرواح نتيجة سياسات تجويع سوفيتية ممنهجة. وتصفها المؤرخة آن أبلباوم في المجاعة الحمراء بأنها “تطهير عرقي متعمد”، بينما تؤكد سوزان جورج، في سياسات المجاعة، أن الجوع غالبًا ما يكون نتيجة قرارات سياسية لا نقصًا في الموارد.

التجويع جريمة حرب بموجب القانون الدولي

يُصنف القانون الدولي استخدام التجويع ضد المدنيين كجريمة حرب، وفقًا لاتفاقيات جنيف (1949) والبروتوكول الإضافي الأول (1977)، اللذين يحرمان ذلك صراحة.
ويُجرم نظام روما الأساسي (1998) “تجويع المدنيين عمدًا” بحرمانهم من الإمدادات الأساسية. كما أكد قرار مجلس الأمن 2417 (2018) أن استخدام الجوع كسلاح انتهاك جسيم يربط قانونيًا بين النزاعات المسلحة وانعدام الأمن الغذائي، ويفتح الباب لملاحقة المسؤولين.

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.