عبد الرحمن السيد
تحول الحريق الهائل الذي اندلع في سنترال رمسيس إلى أزمة وطنية، ليس فقط بسبب آثاره التقنية والاقتصادية الواسعة، ولكن لما كشفه من هشاشة في قلب البنية التحتية الرقمية للدولة. ومع تعطل الاتصالات الأرضية والمحمولة وخدمات الإنترنت، وتوقف مؤقت للبورصة وخدمات الدفع الإلكتروني وحركة القطارات، شهد مجلس النواب جلسة عامة عاصفة، أطلق خلالها النواب من الأغلبية والمعارضة بيانات عاجلة للحكومة، مطالبين بمحاسبة المسؤولين عن هذا القصور الجسيم.
جلسة برلمانية مشتعلة.. هجوم جماعي على وزير الاتصالات
في واحدة من أكثر الجلسات سخونة خلال دور الانعقاد الحالي، شن عدد كبير من نواب البرلمان هجومًا حادًا على وزارة الاتصالات، مطالبين بإجابات واضحة ومحاسبة عاجلة.
النائب عمرو درويش، عضو تنسيقية شباب الأحزاب، طالب بتشكيل لجنة تقصي حقائق برلمانية حول الواقعة، متسائلًا: “فين الوزير؟ إزاي بلد بحجم مصر تبقى واقفة كده؟”
فيما قال النائب أحمد فرغلي: “البلد وقفت كلها بسبب عقب سيجارة! والحكومة دوشتنا بالتحول الرقمي، لكن اتضح أن ده كله كلام نظري من غير أساس حقيقي.”
النائب ضياء الدين داود، أحد أبرز الأصوات المعارضة، دعا إلى محاسبة حاسمة لا تستثني أحدًا، مؤكدًا أن “ما حدث يكشف عن انكشاف خطير في ملف الأمن الرقمي، ويجب أن يكون له تبعات تشريعية وتنفيذية”.
أما رئيس مجلس النواب، المستشار حنفي جبالي، فانتقد أداء الحكومة، وأكد أن المجلس سيوجه دعوة عاجلة لوزير الاتصالات لحضور اجتماع موسع، قائلًا: “ما حدث يتطلب وقفة جادة، ولن نسمح بتكراره”.
من جهته، قال المستشار محمود فوزي، مستشار رئيس المجلس، إن الوزير كان في موقع الحادث ويتابع الأمور ميدانيًا، في محاولة لاحتواء غضب النواب، لكن ذلك لم يمنع تصاعد المطالب بلجنة تقصي حقائق وتقييم شامل للبنية التحتية الرقمية للدولة.
مها عبد الناصر: الحريق كشف “سكتة رقمية”.. وهذه فرصة لإعادة هيكلة الشبكة
وسط هذه العاصفة البرلمانية، جاءت تصريحات النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب، لـ نافذة الشرق، لتُسلّط الضوء على البُعد الاستراتيجي والفني للأزمة، حيث وصفت ما حدث بأنه “سكتة تكنولوجية أصابت قلب الدولة”.
وأكدت أن حريق سنترال رمسيس لا يمكن اعتباره مجرد ماس كهربائي أو حادث عرضي، بل هو “انكشاف كامل لخلل تصميمي خطير في بنية الاتصالات المصرية”، لأن السنترال يمثل شريانًا رقميًا حيويًا تتحكم من خلاله الدولة في المكالمات اليومية، إشارات الطوارئ، بيانات البنوك، وخدمات الدفع الإلكتروني.
وتابعت: “الاعتماد على نقطة واحدة لهذا الكم الهائل من الخدمات يُعد انتحارًا رقميًا… تصميم الشبكة يعتمد على فلسفة خطيرة تُعرف بـ Single Point of Failure، وهي فكرة قديمة لا تتناسب مع معايير الأمن القومي الحديث.”
مطالب بإطلاق خطة وطنية لحماية البنية الرقمية
دعت عبد الناصر إلى إطلاق خطة وطنية عاجلة لتحديث وتأمين شبكة الاتصالات، بالتعاون بين وزارات الاتصالات والدفاع والمالية، وربطها مباشرة باستراتيجية الأمن السيبراني والتحول الرقمي.
وقالت: “التحول الرقمي بدون حماية رقمية شاملة يُهدد الأمن القومي… تأمين البنية الرقمية اليوم لا يقل أهمية عن تأمين الكهرباء والمياه.”
وأشارت إلى أن المراكز البديلة يجب ألا تكون نسخًا خاملة، بل مراكز تشغيل متزامن فعلي (Active-Active Centers)، قادرة على التحول التلقائي دون تدخل بشري عند وقوع أي خلل.
رؤية تشريعية: قوانين جديدة وملزمة قيد الإعداد
كشفت عبد الناصر عن نية عدد من النواب، بمن فيهم هي نفسها، تقديم مقترحات تشريعية تلزم الجهات الحكومية والقطاعات الحيوية بإنشاء مراكز بيانات احتياطية نشطة، وتوزيع الحمل الرقمي على أكثر من موقع جغرافي، موضحة أن “ما جرى يثبت قصورًا تشريعيًا لا بد من معالجته”.
وأضافت: “إذا كنا نشيد عاصمة جديدة ببنية تحتية متطورة، لماذا لم ننقل تدريجيًا المهام الحساسة من رمسيس إلى العاصمة الإدارية؟ هذا التخلف في الخطط يُكلفنا كثيرًا.”
بين الرقابة والمحاسبة.. البرلمان يتحرك
النقاش البرلماني الأخير لم يقتصر على التشخيص، بل شمل تفعيل أدوات رقابية فورية، أبرزها دعوات استدعاء وزير الاتصالات، وتشكيل لجنة تقصي حقائق برلمانية، وربما جلسة استماع موسعة تضم الجهات الفنية والتنفيذية المعنية.
البرلمان، بنوابه من الأغلبية والمعارضة، بدا موحدًا هذه المرة في غضبه ومطالبه: محاسبة المقصرين، وتغيير فلسفة تصميم الشبكة الرقمية، والبدء فورًا في خطة شاملة لحماية الأمن السيبراني.
من الأزمة إلى التحول
ما بين “عقب سيجارة” و”فشل هندسي”، يقف البرلمان والحكومة أمام امتحان حقيقي لمصداقية مشروع التحول الرقمي للدولة المصرية.
الفرصة الآن، كما تؤكد النائبة مها عبد الناصر، ليست فقط في ترميم سنترال رمسيس، بل في إعادة هيكلة كاملة للبنية الرقمية المصرية، تقوم على التوزيع الجغرافي، والتكرار اللحظي، والاستعداد التلقائي للكوارث.
ويبقى السؤال الذي طرحه عمرو درويش في الجلسة: “فين الوزير؟”.. وإجابة البرلمان ستكون في أروقة لجان التحقيق، وملفات المساءلة، ونصوص القوانين القادمة.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.