“رأس الحكمة” … الاستثمار في قدرات الإنسان وعبقرية المكان

7

لم تكن مجرد صفقة اقتصادية، بين طرفين، لكنها خطوة تاريخية غيرت وجه الإستثمار في مصر، وصارت محطة تاريخية في مستقبل الإقتصاد وحياة الناس ونقلة كبيرة لمنطقة الساحل الشمالي .. إنها صفقة رأس الحكمة، أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر، والتي كشفت عن حجم التعاون والتقارب والتعاون بين جمهورية مصر العربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، في كل المجالات وليس الإقتصاد فحسب.

وفي رأيي حققت صفقة “رأس الحكمة”  عدة مكاسب لمصر، أهمها فتح شهية المستثمرين لضخ رؤس أموال جديدة في شرايين الإقتصاد المصري، ورفع الطلب علي الساحل الشمالي مع إمكانية تكرار هذه الصفقة مع شركاء آخرين في الساحل الشمالي وكذلك مناطق مختلفة بمصر شبيهة برأس الحكمة، ومنها 5 مناطق على ساحل البحر الأحمر منها “رأس بناس، ورأس جميلة، ورأس محمد”، لإنشاء مدن تنموية متكاملة تضم فنادق ومناطق حرة وأخري استثمارية، ومطارات، ومارينا، وموانئ  للسياحة الدولية، لتكون وجهات سياحية تستقطب شرائح جديدة من السياح من مختلف دول العالم، ما يعزز تنافسية المقصد السياحي المصري، ويرفع حجم الإستثمار التراكمي في مصر خلال السنوات القليلة المقبلة،

ففي الثالث والعشرين من فبراير الماضي، شهد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، مراسم توقيع أكبر صفقة استثمار مباشر من خلال شراكة استثمارية، بين وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، ممثلة في هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، و”شركة أبو ظبي التنموية القابضة” بدولة الامارات العربية المتحدة؛ لتنفيذ مشروع تطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة على الساحل الشمالي الغربي، بقيمة 35 مليار دولار ما بين 24 مليار دولار سيولة دولارية مباشرة، تتدفق للدولة المصرية من الخارج، بالإضافة إلى 11 مليار دولار، كودائع مستحقة للإمارات بالبنك المركزي المصري، يتم تحويلها بالجنيه المصري لاستخدامها في تنمية المشروع، ويسهم المشروع في إضافة 25 مليار دولار، للناتج المحلي الإجمالي، وتوفير نحو مليون فرصة عمل مباشر وغير مباشر.

“رأس الحكمة”، هي مدينة تقع على الساحل الشمالي، والذي يمتد من العلمين وحتى السلوم لمسافة 500 كيلو متر، بظهير صحراوي يمتد في العمق لأكثر من 280 كيلو متر، بمسطح يصل لـ 160 ألف كيلو متر مربع، ورأس الحكمة تمتد شواطئها من منطقة الضبعة في الكيلو 170 بطريق الساحل الشمالي الغربي وحتى الكيلو 220 بمدينة مطروح بحوالي 96 كيلو متر، وتزخر منطقة الساحل الشمالي بمقومات سياحة وثقافية وتاريخية مهمة منها مقابر الكومنولث والمقبرة الإيطالية والألمانية.

وبالإطلاع علي المخطط القومي للتنمية العمرانية لمصر 2052، والذي أعدته الهيئة العامة للتخطيط العمراني عام 2009، بتكليف من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، وجدنا اهتماما كبيرا من الدولة المصرية بتطوير الساحل الشمالي الغربي، وفي القلب منه “رأس الحكمة” لتحقيق التنمية المستدامة والإنتشار السكاني على أسس علمية حديثة، وعلاج الكثافة السكانية، عبر رؤية وطنية مستقبلية للتنمية العمرانية والبيئية والإقتصادية والإجتماعية، باعتبار الساحل الشمالي من أكثر المناطق القادرة على استيعاب الزيادة السكانية، وجاءت مدينة رأس الحكمة، ذات الموقع الفريد بيئيا وثقافيا وحضريا وعمرانيا علي رأس المناطق المستهدفة ضمن المخطط لوضعها على خريطة السياحة العالمية، كأحد أرقى المقاصد السياحية على البحر المتوسط وفي العالم، من خلال الاستثمار في قدرات الإنسان وعبقرية المكان والموارد، وخلق أنشطة اقتصادية متميزة.

وفي العام 2018، أطلقت الحكومة عملية تنمية الساحل الشمالي الغربي، ودشنت مدينة العلمين الجديدة، وحولتها من موقع سابق لألغام الحرب العالمية الثانية، إلى وجهة عالمية للسياحة.

كما أن رؤية مصر 2030، تهدف لاحداث نقلة نوعية كبيرة في مجال الإسكان والتوسع العمراني، بالشراكة مع القطاع الخاص، بإجمالى استثمارات تخطت حتي الآن تريليون جنيه، لمواجهة التحديات المتعلقة بالإسكان والبيئة الحضرية، من خلال تحقيق التنمية المستدامة وضمان الاستفادة من الموارد الطبيعية المتاحة.

 وحسب مصدر مسئول بوزارة المالية، فإن الصفقة، مكنت مصر من سداد نحو 25 مليار دولار مستحقات محلية وخارجية منذ مارس إلى يونيو الماضيين، وجعل الحكومة أكثر قدرة علي سداد مستحقات خارجية خلال شهر نوفمبر الجاري، ما بين سندات دولية و 818 مليون دولار قسط قرض لصندوق النقد الدولي، تزامنا مع المراجعة الرابعة لبرنامج الإصلاح الإقتصادي، فضلا عن مستحقات بقيمة مليار دولار لشركات نفط أجنبية، ” ليبلغ إجمالى ما تم سداده 3.5 مليار، ويتبقى من إجمالى المبلغ المستحق نحو مليار دولار، بالإضافة لمليار دولار فوائد على إجمالى المبلغ”، وساهمت خلال 6 أشهر من توقيعها في خفض الدين الخارجي لمصر، بأكثر من 15 مليار دولار، نزولا من 168 مليار دولار، في يناير الماضي، إلى 152.8 مليار دولار،  بنهاية شهر يونيو الماضي، وتراجع الدين الخارجي طويل الأجل إلى 126.8 مليار دولار بنهاية يونيو، مقابل 138.551 مليار دولار بنهاية ديسمبر 2023، فيما سجلت الديون قصيرة الأجل 26.24 مليار دولار، مقابل 29.482 مليار دولار، كما تراجعت أرصدة الديون الخارجية المستحقة على الحكومة، إلى 80.178 مليار دولار مقابل 84.849 مليار، بنهاية ديسمبر 2023، بسبب التدفقات الدولارية من الصفقة، وتنازل دولة الإمارات عن 11 مليار دولار من ودائعها بالبنك المركزي المصري، كما حصلت الموازنة العامة للدولة على نسبة 50% من الصفقة، وبلغت التحويلات من الصفقة 510 مليارات جنيه، مما انعكس على تحقيق الموازنة، أكبر فائض أولي في تاريخها بقيمة 822 مليار جنيه خلال العام المالي 2023 – 2024، كما حققت الإيرادات أعلى قيمة في تاريخها وبلغت 2.217 تريليون جنيه خلال الفترة من يوليو إلى مايو من العام المالي 2023 – 2024 بزيادة بقيمة 941.2 مليار جنيه بنسبة نمو 73.7%..

وأضاف المصدر، إن صفقة رأس الحكمة، وراء تسجيل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر رقما قياسيا بلغ 46.1 مليار دولار، خلال العام المالي الماضي 2023 – 2024، مقابل 11 مليار جنيه خلال 2022 – 2023، وساهمت في انتعاش السياحة وزيادة أعداد السائحين من ذوي الإنفاق المرتفع، كما ساعدت في استكمال تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي مع صندوق النقد الدولي، وزيادة القرض المقدم من الصندوق لمصر من 3 إلى 8 مليارات دولار.

وكان البنك الدولي، قد أعلن أن مصر ملزمة بسداد ديون خارجية، بقيمة 60.8 مليار دولار من يوليو 2024 حتى يونيو 2025.

ومنذ توقيع الصفقة حصل البنك المركزى حصل على تدفقات نقدية أجنبية تتجاوز 55 مليار دولار، ما أعطي قدرة للدولة علي تأمين حاجياتها الإستيرادية من السلع الإستراتتيجية، وتوفير الدولار للمستوردين وسداد مستحقات الشركات الأجنبية العاملة فى مصر، والإلتزامات الدولية.

وبالتأكيد ستؤدي هذه الصفقة التاريخية إلى تحقيق انتعاش في قطاعات عدة منها الصناعة لتلبية احتياجات هذا المشروع الضخم في رأس الحكمة، ما يسهم في تحقيق مستهدفات الدولة في التنمية، وتوفير فرص العمل وبالتالي تحسن جودة حياة المواطنين المقيمين في هذه المنطقة فضلا عن زيادة القيمة السوقية والاستثمارية للمنطقة ما يفتح شهية المستثمرين لإقامة مشروعات استثمارية ضخمة بالشراكة مع القطاع الخاص.

ويتضمن مشروع رأس الحكمة، مركز للمال والأعمال، لاستقطاب الشركات العالمية فضلا عن أحياء سكنية وفنادق عالمية ومنتجعات سياحية ومشروعات ترفيهية ومدارس وجامعات ومستشفيات ومبان إدارية وخدمية، بالإضافة إلى منطقة حرة خدمية خاصة سيكون فيها صناعات تكنولوجية وخدمات لوجستية، ومطار دولي، ومن المقرر أن تستوعب المدينة 300 ألف نسمة، من السكان، إضافة إلى جذب 3 ملايين سائح سنويا من خلال التركيز على سياحة اليخوت والسياحة الشاطئية والبيئية والصحراوية، ما يجعلها مركزا إقليميا للتكنولوجيا والابتكار والتصنيع، وتصبح رأس الحكمة قبلة للاستثمار العقاري والسياحي والصناعي وموقع استراتيجي للتجارة والاستثمار.

وأتوقع أن تساهم الصفقة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي لمصر بما لا يقل عن 3 %، ما يرفع الصادرات ويعزز الاستثمار ويخفض التضخم والفقر والبطالة، وترفع ثقة المستثمرين الأجانب في الاقتصاد المصري، وبحسب رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، فإن الجانب الإماراتي سيضخ استثمارات في مشروع رأس الحكمة بقيمة 150 مليار دولار، وسيكون لمصر 35 % من أرباح المشروع طوال مدة تنفيذه.

وبشكل عام، تعد الإمارات – حسب احصاءات رسمية –  أكبر الدول صاحبة الإستثمارات المباشرة في مصر، وأن استثماراتها في مصر ارتفعت إلى حوالي 65 مليار دولار بعد صفقة “رأس الحكمة”، ولديها شركات تجاوز 1600 شركة في قطاعات مختلفة، ما أسهم بتوفير الملايين من فرص العمل المباشرة وغير المباشرة في الكثير من المجالات، ومن أهم أسباب زيادة الاستثمارات الإماراتية في مصر، التقارب والتفاهم بين البلدين وقيادتهما السياسية، متمثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي وأخيه الرئيس محمد بن زايد، فضلا عن رؤيتا البلدين الاقتصادية، والإصلاح الاقتصادي الذي طبقته الحكومة المصرية منذ العام 2016، بهدف جذب الاستثمارات الخارجية، خصوصًا الاستثمارات الإماراتية، وتعد دولة الإمارات الشريك التجاري الثاني عربيا والتاسع عالميا لمصر، كما أن مصر سادس أكبر الشركاء التجاريين للإمارات على المستوى العربي، وهناك نحو 10 قطاعات تقود الاستثمارات الإماراتيّة في مصر، أبرزها القطاع الصحي والعقارات والسياحة والتكنولوجيا والطاقة والمعادن الثمينة وغيرها.

بقلم : أبوبكر الديب

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.