سوريا الجديدة بعد انتهاء حكم الاسد ومفارقات اقليمية ودولية

16

” هو لا يعرف شيئا ويظن أنه يعرف الكثير إذاً فهو يمتهن السياسة”، هذه هي المقولة الساخرة من السياسيين أصحاب الفهلوة تنطبق تماما على حكم بشار الأسد، والذى ظل يحكم سوريا بعد ابيه حافظ الأسد منذ عام 2000 وحتى سقوطه في 8 ديسمبر 2024. فكل السياسيين، بما فيهم أنصاره ومقربيه، ألقوا لومهم على طريقة التعامل مع الثورة السورية والثوار بهذا الشكل السيء والعقيم. وقالوا بأنه لا يمكن لأى سياسي أن يقتل شعبه بما يفوق المليون شخص، ويهجر مواطنيه بما يقترب من 14 مليونا ما بين ادلب وتركيا ومصر والأردن ولبنان وبقية الدول العربية والأجنبية، ويظل على كرسي الحكم بالحديد والبراميل والنار فقط. صحيح أنه استطاع أن يسد الأفق السياسي في سوريا، وينجح في غلق كل الطرق الممكنة لحلحلة ازمة السلطة بالقوة الجبرية والتحالف مع ايران وروسيا، وفرض قبوله على الحكام العرب مرة أخرى إلا أن الصحيح أيضا أن حجم الكراهية له تضاعف ملايين المرات، وأصبح السوريون أنفسهم لا يطيقون سماعه ويذهبون لطريق واحد وهو الإطاحة به بقوة السلاح واسقاطه، ويكون الجزاء من جنس العمل. فلم يترك لهم خيار اَخر غير هذا. بل إنه نجح في السيطرة على المعارضة السياسية، وتمكن من تسييرها في الخارج على هواه بحيث لا يتم تطبيق قرار الأمم المتحدة 2254. وبالتالي ليس في الإمكان ابدع مما كان، وليس  للسوريين من مخرج غير الذى عاشوه مع انتصارات الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام وحتى تمكنوا من اسقاطه.

   وإذا تناولنا القضايا التي عادة ما يتم تجاهلها عند مناقشة المسألة السورية وعلاقتها بأزمة الحكم والسلطة وتقسيم سوريا خلال فترة الاسد، مثل السيطرة الاستراتيجية على مواردها الهيدروكربونية والبترول، فضلاً عن قوة الدعاية في تدليس الحقائق واستخدام الجهات الفاعلة من قبل القوى الإقليمية المتنافسة، سنجد أننا نحتاج الى كتاب كامل. لكن حينما نحرر أنفسنا من تلك الامور ونحاول ان نتلمس وجهات النظر التى تعكس الاختلاف بين أصحاب المصالح فى سوريا ستظهر لنا لوحة ممسوكة، ويمكن تحسس زواياها. فقد تحولت الأزمة السورية فى اواخر عهد بشار الاسد إلى حرب بالوكالة، وكانت ساحة معركة للهيمنة الإقليمية فتوحشت فيها ايران وتنظيماتها المسلحة أيما توحش، واستفحل قتل حزب الله فى سوريا وتمدد . كما خلقت الازمة السورية فرصة لدول جديدة للظهور على مسرح الشؤون العالمية. على سبيل المثال، كانت روسيا تحافظ على مستوى منخفض من الاهتمام منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، لكنها تولت دورًا قياديًا في الأزمة السورية من خلال إعادة تأكيد نفسها ضد الغرب إقليميًا. كما كانت الأزمة السورية بمثابة حافز لإعادة تشكيل العديد من العلاقات بين الدول والسماح لدول مثل روسيا وإيران وتركيا والصين بلعب دور جيوسياسي متزايد الأهمية.

 وكانت للأزمة السورية العديد من التداعيات الدولية. ففي حين أدت الأزمة إلى التقارب الإيراني الروسي، إلا أنها كانت أيضًا حافزًا لمزيد من التعاون بين روسيا والمملكة العربية السعودية؛ والأهم من ذلك أنها أجبرت الدول ذات وجهات النظر المتعارضة حول الأزمة، تركيا وإيران وروسيا، على تشكيل تحالف. وعلاوة على ذلك، خلقت الأزمة توترات بين الولايات المتحدة وتركيا، فى حين سعت الصين من ناحية إلى موازنة مصالحها بين الخليج وإيران، بينما تركيزها منصب على مبادرة الحزام والطريق الطموحة، وحاولت من ناحية أخرى احتواء الحركات الاسلامية هناك.

  وعلى هذا، عدت العملية التركية فى شمال سوريا منذ 9 اكتوبر 2019  مسألة أمن قومى تركى لدولة أنفقت 40 مليار دولار على اللاجئين السوريين. ولهذا واصلت تركيا دعم الجيش الوطني السوري، الذي شن عمليات ضد قوات سوريا الديمقراطية في نوفمبر. وبررت تركيا ذلك بقولها بأن قوات سوريا الديمقراطية لها صلات بحزب العمال الكردستاني، الذي ظل يشن تمردًا في تركيا ويعتبره الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، منظمة إرهابية. وقالت تركيا إنها تتوقع نزع سلاح حزب العمال الكردستاني. وفى هذا السياق دخلت تركيا في مفاوضات فاشلة مع الأسد لتطبيع العلاقات في عامي 2023 و2024، بهدف إعادة اللاجئين السوريين من تركيا. حيث تستضيف تركيا حوالي 2.9 مليون لاجئ سوري. وقد عرضت تركيا المساعدة في تدريب القوات المسلحة السورية إذا طلب منها ذلك. لكن دون جدوى من نظام الاسد، وبالتالى كان عليها ان تبحث عن مخرج لانقاذ اقتصادها وتقليل الانفاق على اللاجئين السوريين. ولهذا جرت مفاوضات لإنهاء الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني. وحينما انتصفت سنة 2024 كانت هيئة تحرير الشام تقترح حصول مناطق قوات سوريا الديمقراطية على الحرية، لكنها ميزت بين الجماعات الكردية وحزب العمال الكردستاني. وتدافعت الامور فى نهاية عام 2024 على اثر طوفان الاقصى وحرب غزة، ودخول حزب الله طرفا فى جنوب لبنان فى شن هجوم على اسرائيل. وهو ما جعل قوات الحزب مشتتة ما بين سوريا وجنوب لنان، فضربت اسرائيل ضربتها وقتلت الامين العام لحزب الله ومن خلفه ايضا وعددا كبيرا من قوات الحزب، فاستغلت قوات تحرير الشام هذا المأزق ودخلت من شمال سوريا الى ان سقط الاسد فى 8 ديسمبر 2024. وهرب بعدها لروسيا وتولت هيئة تحرير الشام السلطة فى دمشق تحت قيادة أحمد الشرع والذى اصبح رئيسا لسوريا خلال مؤتمر اعلان النصر. وهنا تبدلت المواقف، فمن كان ممسكا بزمام الامور فى سوريا طرد منها وبات الناس له كارهون، كايران. ومن كان يخشى التدخل واثر السلامى كدول الخليج، باتت الأمور فى صالجها.

   وإذا حللنا المستفيد من الاطراف الاقليمية من هذا التغيير لوجدنا أن دول الخليج هى اول من استفاد من هذا الامر فى مجال صراعها المستمر مع ايران وافشال مشروعها فى بلاد الشام والعراق. فى حين يرى أخرون بأن تركيا، التي دعمت المعارضة، هي المستفيد الأكثر من سقوط الأسد. وبالنسبة لإيران وحزب الله اللبناني، فإن سقوط الأسد يمثل هزيمة استراتيجية للمحو الإيراني. وفشل لشبكة الجماعات المسلحة والإرهابية التي طورتها إيران، بما في ذلك الميليشيات العراقية، والأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن. فخسارة الأسد قطعت طريقًا بريًا مهمًا من إيران إلى لبنان. فمن المعروف أن إيران كانت تستخدم شيعة العرب والعلويين السوريين حطبا لها ولمصالحها. لكن مع كل ما حدث في اعوانها يستمر هؤلاء فى مولاتها حتى الان بدليل طربهم لما اعلنه وزير الخارجية الايران ونظام ولاي الفقية خامنئى بانهم سيتعيدون نفوذهم مرة أخرى. والناظر لطريقة ايران فى صناعة المليشيات وضرب الشيعة العرب بالسنة دون أن يقتل أحد من رجالها، يتبين بأن ايران لم تنقذ شيعة لبنان من القتل والتشريد على يد اسرائيل، ولم تستطع أن تنقذ بشار من الهروب بجله خشية القتل. والادهى أنه بعد أن كسر ظهرها فى سوريا ستعمل بكل الطرق أن تشعل هذا الحطب لاحياء مشروعها من جديد. غير أن الكل أصبح واعيا بمجموعاتها، ومتيقظا لتحركاتها السرية والعلنية، حتى اؤلئك الذين تلاعبت بهم، وقتلوا فى حرب سوريا واسرائيل دون اى تحرك منها. وبالنسبة للموقف المصرى، فهو يمسك العصا من المنتصف، فبيان الرئاسة والخارجية المصرية مما حدث فى سوريا فى البداية كان بيانا غير ممسوك. كونه لا يعبر عن موقف حقيقى ملموس، بل كان عبارة تجميع لكلمات لا يفهم منها موقفا يعبر عن رضاء كامل بما حدث من تغيير. لكن بتوالى الايام واستتاب الامن ومع الزيارات المتتالية من قبل العرب لسوريا والعكس، قام الرئيس عبدالفتاح السيسى بتهنأة احمد الشرع على اختياره رئيسا للجمهورية السورية، وبات النظام المصرى متفهما لما جرى وقابلا بها رغم ضجيج بعض الاعلاميين عن خلفية رئيس سوريا الجديد وصخبهم.  

  وفيما يتعلق بروسيا، فقد كانت داعمًا مهمًا للأسد، ويُعتقد أن قواعدها العسكرية في سوريا سمحت لها بفرض قوتها عبر البحر الأبيض المتوسط ​​​​والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لكن التغيير الذى جرى لم يصبها منه الكثير، فهى اقل المضارين من سقوط الاسد بسبب الظروف المحيطة التى يمر بها النظام الجديد فى سوريا. حيث تكمن هذه الخسارة لروسيا فى مقولة ي وزير الدفاع المؤقت السورى الجديد بأن هيئة تحرير الشام منفتحة على احتفاظ روسيا ببعض القواعد، إذا كان ذلك مفيدًا لسوريا. وفي غضون ذلك، تم الإبلاغ عن انسحاب روسي من بعض المناطق.

 وبالمقابل كان موقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة قد تحولق قبل سقوط بشار حول إجراء مفاوضات سياسية بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254. لكن بعد سقوط الاسد ايدت التغيير لكنها اشترطت للحصول على الدعم واسقاط العقوبات رحيل القاعدتين الروسيتين عن سوريا. فى حين ذهبت اسرائيل الى ضورة ابقاء هاتين القاعدين للسيطرة على النظام السورى. وعلى هذا نحن امام مفارقة غريبة للغاية الكل يؤيد التغيير عدا ايران وفريقها، والكل يربط المساعدات ورفع العقوبات بمشروطيات سياسية.

  ونأتى لاسرائيل ورغم انها تفاخرت فى البداية بأن على السوريين أن يشكروها لانها قامت بتحطيم قوى حزب الله وبالتالى اعطت الفرصة لهيئة تحرير الشام بالدخول، إلا انها استدركت هذه المفاخرة وندمت عليها. ودليل ذلك تقدمها فى الاراضى السورية واحتلالها لبعض المناطق مخترقة اتفاقية عام 1974. بل نفذت في ديسمبر 2024، عمليات عسكرية استهدفت الأصول العسكرية السورية ومنشآت الأسلحة الكيميائية التي كانت تحت سيطرة حكومة الأسد سابقًا. ودخلت القوات الإسرائيلية المنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل. وفي عام 2025، قالت إسرائيل بأنها ستبقى “إلى أجل غير مسمى” في جبل الشيخ لضمان أمن إسرائيل والجولان وتريد نزع السلاح من أجزاء من جنوب سوريا بدون وجود هيئة تحرير الشام.

 ومع كل هذه المواقف الإقليمية والدولية لاتزال الاحتياجات الإنسانية في سوريا مرتفعة ودون حل، حيث يُقدر عدد المحتاجين بنحو 16.5 مليون شخص في عام 2025. بل أدى العنف المستمر بين قوات سوريا الديمقراطية والجيش الوطني السوري في شمال شرق سوريا إلى نزوح حوالي 1.1 مليون شخص وسقوط ضحايا من المدنيين والمقاتلين. وكان هناك أكثر من عقد من الأضرار الجسيمة للبنية التحتية السورية، بما في ذلك المدارس والطرق والمستشفيات. كما يسعى جيران سوريا إلى عودة اللاجئين. ومع أن الدولة السورية الجديدة تسيطر على الجزء الأكبر من سوريا والعاصمة، وأعلنت عن إنشاء حكومة انتقالية وحلت الفصائل المسلحة ثم اقامت مؤتمرا للحوار الوطني، الا انها لم تفلح حتى الان في اسقاط العقوبات المفروضة على سوريا او تسيطر على كل الأراضي شرق الفرات. وربما يكون الإعلان الدستوري المنظم للفترة الانتقالية وتغيير الحكومة المؤقتة بحكومة انتقالية ييسر عملية المقاربة وإعادة الامن والاستقرار والانطلاق منها لمرحلة الاعمار. وهناك وجب التنبيه على القائمين على الأمور في سوريا بضرورة استعادة دولتهم وتقوية دفاعاتها وإعادة امنها واستقرارها، بغض النظر عن أي حسابات إقليمية ودولية، أو تطويع تلك الحسابات في صالح دولتهم ومشروعهم الجديد.

الكاتب/د.أحمد عبدالدايم، أستاذ التاريخ السياسى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.