صفقة تاريخية تهز آسيا: “قآن” المقاتلة التركية تسلح جاكرتا وتخدم طموح أنقرة

2

كتبت: هدير البحيري

أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الأربعاء، عن توقيع بلاده اتفاقية مع إندونيسيا لتصنيع وتصدير 48 مقاتلة من طراز “قآن” محلية الصنع، في صفقة وصفها بـ”عقد التصدير القياسي في تاريخ تركيا”.

إنتاج مشترك ونقل للتكنولوجيا

تتضمن الاتفاقية، التي وُقعت في العاصمة الإندونيسية، جاكرتا خلال فعاليات معرض “إندو ديفنس 2025″، نقل التكنولوجيا وتعزيز التعاون الاستراتيجي بين البلدين.
وينص العقد على تسليم الطائرات خلال 120 شهرًا، على أن يتم تزويدها بمحركات تركية الصنع.
كما تنص الاتفاقية على إشراك القدرات الصناعية الإندونيسية في عملية الإنتاج، بما يعزز الشراكة الصناعية الثنائية ويقلل من الاعتماد الخارجي في قطاع الدفاع الإندونيسي.

حضور رسمي رفيع المستوى

شهد حفل التوقيع حضور الرئيس الإندونيسي برابوو سوبيانتو، ووزير الدفاع سجافري شمس الدين، ومن الجانب التركي رئيس هيئة الصناعات الدفاعية هالوق جورجون، وعدد من كبار المسؤولين التنفيذيين في شركة الصناعات الجوية والفضائية التركية “توساش”، المطورة لطائرة “قآن”.
وفي منشور على “إكس”، أكد هالوق جورجون أن المشروع يمثل “أحد أبرز الأمثلة على الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا والتعاون الاستراتيجي بين تركيا وإندونيسيا”، مشيدًا بدور شركة “توساش” باعتبارها المقاول الرئيسي في الصفقة.

“قآن”: مقاتلة الجيل الخامس التركية

تمثل مقاتلة “قآن” الجيل الخامس من الطائرات القتالية، وهي طائرة تفوق سرعتها سرعة الصوت، وتتميز بقدرتها على أداء مهام قتالية جو-جو وجو-أرض، مع قدرة عالية على التخفي والمناورة.
المقاتلة التي طورتها “توساش” بأيدٍ وخبرات تركية، أتمت أول رحلة ناجحة لها في 21 فبراير 2024، وتمثل ذروة التطور في الصناعات الجوية التركية، حيث تجمع بين الذكاء الاصطناعي والأنظمة الإلكترونية المتقدمة.

توسع في التعاون الدفاعي.. اتفاقيتان جديدتان

بالتوازي مع صفقة مقاتلات “قآن”، وقعت شركة “روكيتسان” التركية اتفاقيتين مع شركة “PT RDI” الإندونيسية لتوريد صواريخ “أطماجا” المضادة للسفن، وتأسيس شركة مشتركة لإنتاج وتجميع الصواريخ داخل إندونيسيا.
وتهدف الاتفاقيتان إلى تعزيز القدرات الدفاعية الإندونيسية، وتوسيع آفاق التعاون الصناعي والتقني بين البلدين.

مرونة تكنولوجية وتعاون غير مشروط.. سر التوجه الإندونيسي نحو تركيا
وفي حوار خاص مع نافذة الشرق، قال إسلام شحته، الخبير في الشؤون الهندية والباكستانية وجنوب شرق آسيا، إن اتجاه إندونيسيا نحو المقاتلة التركية “قآن” يعود إلى ميزتها الاقتصادية والتكنولوجية مقارنة بنظيراتها الغربية. إذ تقدر التقارير أن سعر “قآن” أقل بنحو 30 إلى 40% من مقاتلات مثل ” F-35″ و “رافال”، إلى جانب تمتعها بقابلية أعلى للتخصيص وفق الاحتياجات المحلية، وهو ما يجعلها خيارًا عمليًا لدولة مثل إندونيسيا تسعى لتوسيع خياراتها الدفاعية والظهور كلاعب فاعل في جنوب شرق آسيا.
وأضاف شحته أن الصفقة تعكس ميل جاكرتا المتزايد نحو تنويع مصادر التسلح، وتجنب الاعتماد الحصري على الأنظمة الغربية التي غالبًا ما تقيد حرية الاستخدام بشروط سياسية. ولفت في هذا السياق إلى القيود الأمريكية التي فُرضت على صادرات الأسلحة لإندونيسيا في عام 2005، مؤكدًا أن أنقرة – بخلاف واشنطن – تقدم تعاونًا غير مشروط يجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والانفتاح السياسي.

شراكات جديدة.. وتراجع نسبي للهيمنة الأمريكية

ولا يرى شحته في الصفقة “قطيعة كاملة” مع الولايات المتحدة أو الصين، لكنه يعتبرها خطوة لتقليص الاعتماد الحصري على هاتين القوتين. فعلى سبيل المثال، كانت واشنطن تمثل المصدر الأول للسلاح الإندونيسي في عام 2022 بحصة بلغت 35%، لكن الاتفاقية الجديدة مع أنقرة تقوض هذا الترتيب وتفتح الباب أمام توازن جديد في واردات الدفاع.
وأكد شحته أن الصفقة تتماشى مع رؤية “إندونيسيا 2045″، التي تضع في صلب أولوياتها التحرر الدفاعي النسبي وبناء قدرات مستقلة.
وفي هذا السياق، أشار شحته إلى أنه يتوقع تسارع وتيرة نقل التكنولوجيا (ToT) وتوسيع القاعدة الصناعية الدفاعية المشتركة بين إندونيسيا وشركاء مثل تركيا وكوريا الجنوبية.

أنقرة تدخل سباق النفوذ في جنوب شرق آسيا

أما من زاوية الجغرافيا السياسية، فيرى شحته أن اختيار مقاتلة تركية يأتي في ظل اشتداد التوترات في بحر الصين الجنوبي، حيث تبحث جاكرتا عن موقع فاعل “مستقل” في المعادلة الإقليمية، لا يتبع واشنطن ولا بكين.
وأضاف شحته أن دعم القوات الجوية الإندونيسية بمنصات متعددة المهام مثل “قآن” يُعزز قدرة الردع، خصوصًا في المناطق الحساسة مثل جزر ناتونا، التي تشهد مناوشات دورية مع البحرية الصينية.
ويختم شحته بالقول إن الخطوة قد تُلهم دولًا أخرى في رابطة آسيان، مثل ماليزيا والفلبين، للنظر إلى تركيا كمصدر بديل للتسلح، ما من شأنه أن يُعزز موقع أنقرة كـفاعل أمني صاعد في جنوب شرق آسيا.

دلالات التوقيت.. ورهان استراتيجي

يرى محللون في الشأن التركي أن توقيت الإعلان عن صفقة تصدير مقاتلات “قآن” إلى إندونيسيا يحمل أبعادًا استراتيجية تتجاوز الجانب التجاري. فمن جهة، تسعى أنقرة إلى ترسيخ مكانتها كمصدر رئيسي للتكنولوجيا الدفاعية في العالم الإسلامي والشرق الأوسط، في ظل تصاعد التحديات الجيوسياسية في مناطق مثل شرق المتوسط والبحر الأسود.
كما يتزامن الإعلان مع مرحلة مفصلية من مشروع “قآن” محليًا، إذ يأتي عقب نجاح أول تجربة طيران للمقاتلة في فبراير 2024، في خطوة تعبر عن ثقة تركيا المتزايدة في قدراتها التقنية ورغبتها في تصدير هذا الإنجاز إلى الخارج، لا سيما إلى أسواق آسيوية استراتيجية.

ويشير المراقبون إلى أن هذا التوقيت يعكس كذلك سعي أنقرة إلى التموضع في خارطة النفوذ الآسيوية، خصوصًا مع اشتداد التوترات في بحر الصين الجنوبي، حيث تحاول تركيا أن تطرح نفسها كطرف مقبول ومتوازن في المنطقة، بعيدًا عن الاستقطابات التقليدية بين واشنطن وبكين.

“قآن”.. بوابة لاستقلالية جيوسياسية

بحسب الخبراء، لا تُعد الصفقة مجرد إنجاز اقتصادي، بل تمثل حلقة من استراتيجية أوسع تنتهجها تركيا منذ أكثر من عقد لتعزيز “الاستقلالية الجيوسياسية” عبر تطوير صناعاتها الدفاعية.
وقد فرضت عليها تجارب سابقة – لا سيما القيود الغربية على تصدير الأسلحة – اتباع سياسة “الاعتماد على الذات”، ما أدى إلى نمو سريع في هذا القطاع.
وتصدير مقاتلة من الجيل الخامس مثل “قآن” يعكس نضج الصناعة الدفاعية التركية، ويؤكد انتقال أنقرة من مرحلة الإنتاج المحلي إلى مرحلة تصدير التكنولوجيا المتقدمة لدول بحجم إندونيسيا، وهو ما يمنح تركيا موقعًا جديدًا في سوق السلاح العالمي كطرف مستقل لا يخضع لابتزاز أو مشروطيات سياسية.

أبعاد اقتصادية وشراكات طويلة المدى

من الجانب الاقتصادي، يرى المحللون أن الصفقة تمثل دفعة قوية للاقتصاد التركي، سواء من خلال عائداتها المباشرة أو عبر فتح أسواق جديدة أمام المنتجات الدفاعية، مما يعزز من موقع هذا القطاع كمصدر مهم للعملة الأجنبية إلى جانب السياحة والصناعة.
ولا تقتصر أهمية الاتفاق على بيع الطائرات فقط، بل تشمل أيضًا إمكانيات نقل التكنولوجيا، وإنشاء خطوط إنتاج مشتركة، وتبادل الخبرات. فإندونيسيا – بوصفها دولة تسعى لبناء قدرات دفاعية وطنية – تنظر إلى الصفقة كبوابة لشراكة صناعية أعمق قد تمتد إلى مجالات الطيران، والإلكترونيات العسكرية، وربما حتى الطائرات المسيرة في المستقبل.

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.