طرابلس تحت النار: اشتباكات دامية وانقسام أمني يعيد الأزمة الليبية إلى الواجهة
كتب: محمد عبدالوهاب
تشهد العاصمة الليبية طرابلس منذ مساء الاثنين تصعيدًا أمنيًا خطيرًا، أعاد التوتر والفوضى إلى واجهة المشهد الليبي، وسط تحركات عسكرية مفاجئة واشتباكات عنيفة دارت رحاها في قلب الأحياء السكنية، وبلغت ذروتها بمقتل أحد أبرز القادة الأمنيين في المدينة. هذا التصعيد يضع حكومة الوحدة الوطنية أمام اختبار صعب، ويطرح تساؤلات حادة حول مستقبل الاستقرار في البلاد.
ففي تطور لافت، أعلنت وزارة الدفاع في حكومة الوحدة الوطنية سيطرتها الكاملة على منطقة أبو سليم، إحدى أكبر وأهم المناطق الجنوبية في طرابلس، والتي تعد من أبرز معاقل النفوذ الأمني المختلط، وتتمتع بحساسية استراتيجية عالية. وأكدت الوزارة أن العملية العسكرية التي نفذتها انتهت بنجاح، وتم إصدار تعليمات باستكمال الخطة الأمنية في المنطقة لضمان الاستقرار ومنع أي محاولات لزعزعة الوضع مجددًا.
جهود لضبط الأمن وسط اشتداد التوتر
وفي محاولة لطمأنة السكان، أصدرت وزارة الداخلية بيانًا أكدت فيه أنها تتابع عن كثب مجريات الأمور، لاسيما في مناطق الجنوب والغرب من العاصمة، مشيرة إلى أن الأوضاع “تتجه نحو السيطرة”، وأن الأجهزة الأمنية “تبذل جهودها لضبط الأمن واحتواء الموقف”. هذا البيان جاء بعد ساعات من انتشار مقاطع مصورة تظهر تحركات مكثفة لقوات أمنية وعسكرية تابعة لحكومة طرابلس وهي تسيطر على مقرات أمنية وعسكرية في العاصمة، من بينها مقرات جهاز دعم الاستقرار وجهاز الأمن الداخلي المساند له.
الاشتباكات العنيفة التي شهدتها المدينة، لاسيما في محيط أبو سليم والضواحي الجنوبية، أثارت حالة من الذعر بين المدنيين، الذين استيقظوا على دوي الأسلحة الثقيلة في قلب الأحياء السكنية. وأكدت مصادر ميدانية سماع أصوات الاشتباكات حتى صباح الثلاثاء، رغم إعلان الحكومة إنهاء العملية العسكرية.
مقتل “غنيوة”.. نقطة التحول
التحول الأكبر في المشهد وقع مساء الاثنين، حينما أكدت مصادر أمنية مقتل عبد الغني الككلي، المعروف باسم “غنيوة”، آمر جهاز دعم الاستقرار، داخل مقر اللواء 444 بمعسكر “التكبالي” في الضاحية الجنوبية للعاصمة. وأشارت الأنباء إلى أن مقتله جاء أثناء مفاوضات كانت تجري بين قيادات أمنية رفيعة المستوى، قبل أن تنقلب إلى تبادل لإطلاق النار في ظروف لم تتضح تفاصيلها بعد.
مقتل “غنيوة” — أحد أبرز رجال الأمن في طرابلس وأكثرهم نفوذًا — شكّل نقطة تحول محورية، وأدى إلى اندلاع موجة من العمليات العسكرية من قبل قوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية، استهدفت بشكل مباشر مقرات جهاز دعم الاستقرار في مختلف أنحاء المدينة، في ما بدا وكأنه عملية منظمة لتفكيك الجهاز بالكامل أو على الأقل الحد من نفوذه المتصاعد.
تحذيرات أممية وتخوفات دولية
من جانبها، أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن قلقها العميق إزاء تصاعد وتيرة العنف في طرابلس، لا سيما استخدام الأسلحة الثقيلة في مناطق مكتظة بالسكان. ودعت البعثة جميع الأطراف إلى وقف الاقتتال فورًا، واستعادة الهدوء في العاصمة، مشددة على ضرورة الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، وبخاصة فيما يتعلق بحماية المدنيين وعدم استهداف المرافق المدنية.
وفي بيان صدر في وقت متأخر من ليلة الاثنين، حذّرت البعثة من أن استهداف المدنيين أو الأهداف المدنية يمكن أن يشكّل جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي، مؤكدة دعمها الكامل لجهود القيادات المجتمعية وزعماء القبائل الذين يسعون لاحتواء الموقف وتهدئة الأوضاع.
حالة طوارئ صحية وتعليمية
وبالتزامن مع هذا التصعيد، أصدرت وزارة الصحة الليبية توجيهات عاجلة لجميع المستشفيات والمراكز الطبية برفع درجة الاستعداد إلى الحد الأقصى، تحسبًا لأي طوارئ ناتجة عن الاشتباكات المستمرة. وأشارت الوزارة إلى ضرورة ضمان جاهزية غرف الطوارئ والطواقم الطبية للتعامل مع الإصابات المحتملة، رغم غياب بيانات رسمية حتى الآن عن عدد الضحايا أو المصابين.
في المقابل، دفعت هذه التطورات العديد من المؤسسات التعليمية إلى تعليق الدراسة، حيث أعلنت مراقبات التعليم في عدد من بلديات طرابلس الكبرى عن توقف الدروس والامتحانات حتى إشعار آخر. كما أعلنت جامعة طرابلس تعليق أنشطتها الأكاديمية والإدارية بسبب المخاوف الأمنية، حفاظًا على سلامة الطلبة والكادر التعليمي.
القلق من اتساع رقعة الاشتباكات
رغم إعلان الحكومة انتهاء العمليات العسكرية صباح الثلاثاء، فإن المخاوف لا تزال قائمة من احتمال توسع رقعة الاشتباكات، خاصة مع ورود أنباء عن توجه القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية نحو مدينة غريان (80 كيلومترًا جنوب العاصمة)، في ما يمكن تفسيره كخطوة استباقية للسيطرة على آخر معاقل جهاز دعم الاستقرار خارج طرابلس.
ويرى مراقبون أن ما جرى ليس مجرد مواجهة أمنية عابرة، بل يعكس عمق الانقسام داخل المنظومة الأمنية في ليبيا، والصراع على النفوذ بين الأجهزة المختلفة، خاصة تلك التي نشأت بعد عام 2011 وتمتعت بسلطة فعلية على الأرض، رغم محاولات الحكومات المتعاقبة دمجها أو ضبطها.
السيناريوهات القادمة: بين السيطرة والانفجار
تشير التطورات الأخيرة إلى أن حكومة الوحدة الوطنية تسعى لإعادة هيكلة المشهد الأمني في العاصمة، ربما بإنهاء وجود بعض الكيانات الأمنية المستقلة أو شبه الرسمية، التي شكلت تحديًا دائمًا لسلطة الدولة المركزية. إلا أن هذا التحرك، رغم أهميته، قد يؤدي إلى اشتباكات دموية أخرى ما لم يتم احتواؤه بتوافقات سياسية وأمنية أوسع.
وفي انتظار ما ستسفر عنه الساعات المقبلة، تبقى طرابلس على صفيح ساخن، ومصير الاستقرار في العاصمة الليبية مرهونًا بمدى نجاح الحكومة في فرض سيطرتها دون الانزلاق إلى حرب داخلية جديدة، قد تعيد البلاد إلى مربع الفوضى الذي تسعى للخروج منه منذ سنوات.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.