فيضان مفاجئ يهدد مصر والسودان: ماذا وراء فتح بوابات المفيض في سد النهضة؟
كتبت: هدير محمد
في تحول مفاجئ، أعلنت إثيوبيا فتح بوابات المفيض العلوي لسد النهضة، وهو إجراء أثار موجة من القلق والتساؤلات في دولتي المصب مصر والسودان. ففي لحظة فارقة، تحوّلت الأنظار من ملف التخزين الجدلي إلى تحدٍ جديد يتمثل في تدفق غير منسق للمياه، مما أعاد إلى الواجهة إشكالية محورية، ألا وهي هل كان هذا القرار ضرورة فنية حتمية فرضتها الظروف الهيدرولوجية، أم أنه خطوة سياسية مقصودة لإحكام السيطرة على مجرى النهر وفرض سياسة الأمر الواقع؟
ما وراء القرار.. تقنية الضرورة أم تكتيك الأحادية؟
يكشف تحليل الخبراء في مجال الموارد المائية، ومنهم الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، أن قرار فتح بوابات المفيض العلوي لسد النهضة لم يكن خيارًا سياسيًا، بل كان ضرورة فنية حتمية. تعود هذه الضرورة إلى وصول منسوب المياه خلف السد إلى مستويات حرجة، حيث بلغ حوالي 640 مترًا فوق سطح البحر. كان هذا الارتفاع يهدد بمرور المياه من فوق الممر الأوسط للسد، وهو الأمر الذي كان سيعطل بشكل مباشر استكمال الأعمال الهندسية الحيوية في هذا الجزء من السد، وتحديدًا بناء جسر فوقه. لذلك، كان فتح البوابات هو السبيل الوحيد لتصريف المياه الزائدة والحفاظ على سير الأعمال الإنشائية في الممر الأوسط.
يُعزى هذا الموقف الفني المعقد بشكل كبير إلى مشكلة جوهرية تتعلق بتشغيل التوربينات، وهي الآلية الأساسية التي كان من المفترض أن تصرف المياه وتولد الكهرباء في آن واحد. رغم أن السعة الكلية لسد النهضة تبلغ 74 مليار متر مكعب، وأن بحيرته امتلأت بنحو 64 مليار متر مكعب، إلا أن التوربينات لم تعمل بكامل طاقتها. وتشير المصادر إلى عدم وجود معلومات مؤكدة حول عدد التوربينات التي تم تشغيلها فعليًا من أصل 13 توربينًا. هذا الفشل التقني وضع إثيوبيا في مأزق، حيث اضطرت إلى تصريف المياه التي خزنتها بصعوبة بالغة وخلال جولات توتر مستمرة ، دون أن تحقق الاستفادة الاقتصادية المرجوة من توليد الكهرباء. هذا التناقض الجوهري يلقي بظلاله على الجدوى الحقيقية للمشروع من منظوره الفني البحت.
الدوافع السياسية: “لعبة الأمر الواقع
وفي هذا الصدد، قال الدكتور هاني الجمل، رئيس وحدة الدراسات الأوروبية والاستراتيجية بمركز العرب والباحث في الشؤون الإقليمية والدولية، في حديث خاص لـ”نافذة الشرق”، إن قرار إثيوبيا الأخير بفتح بوابات سد النهضة جاء نتيجة امتلاء السد بكمية تتجاوز 64 مليار متر مكعب من المياه، ما يمثل ضغطًا هائلًا على جسم السد، ويهدد سلامته الإنشائية. ولفت إلى أن فتح البوابات في هذا التوقيت يُعد إجراءً متوقعًا وطبيعيًا في ظل تزايد منسوب المياه، خصوصًا مع دخول موسم الصيف، الذي يشهد عادة تدفقات مائية مرتفعة نتيجة الأمطار الموسمية في الهضبة الإثيوبية.
وأوضح الدكتور هاني الجمل أن هناك تقارير فنية سابقة حذّرت من عدم قدرة سد النهضة على تحمّل كميات كبيرة من المياه لفترات طويلة، لاسيما مع توجه أديس أبابا نحو تنفيذ أعمال تعلية إضافية للسد، فضلًا عن مخطط لإنشاء ثلاثة سدود خلفية صغيرة الحجم قد تصل سعتها التخزينية مجتمعة إلى 200 مليار متر مكعب. هذه المشروعات تثير مخاوف فنية واستراتيجية، وتدفع إثيوبيا إلى تخفيف الضغط بشكل دوري عبر فتح البوابات.
وفي إطار التقييم السياسي للأوضاع الحالية، أشار الدكتور هاني الجمل، إلى أن فتح البوابات قد يتقاطع مع استراتيجية ضغط أوسع على مصر من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة في ظل مواقف القاهرة المعارضة لبعض المخططات الإقليمية، ومن بينها رفض تهجير الفلسطينيين أو إعادة تشكيل خرائط النفوذ في الشرق الأوسط. وأضاف أن هناك مشروعات إسرائيلية قديمة متعلقة بنقل مياه النيل إلى سيناء ومنها إلى إسرائيل عبر أنابيب، أو حتى عبر شراء المياه من إثيوبيا، وهو ما يُعزز من أهمية سد النهضة كورقة ضغط إقليمية.
دولتا المصب.. بين هواجس الفيضان وواقع الاستعدادات
وفيما يتعلق بالتداعيات المحتملة على دولتي المصب، أوضح الدكتور هاني الجمل أن السودان يبدو الأكثر تأثرًا في الوقت الراهن نظرًا لحالة الانقسام السياسي الحاد داخله، والتي تعرقل قدرة الخرطوم على إدارة ملف المياه بشكل استراتيجي، سواء عبر صيانة السدود أو تشكيل لجان لإدارة المخاطر المائية.
أما مصر، فأكد أن القاهرة تعاملت مع الأمر بقدر كبير من الحذر والاستعداد، حيث اتخذت عدة إجراءات احترازية منها فتح بوابات مفيض توشكى، وتوسيع أعمال تطهير المصارف والترع، وتبطينها لمواجهة أي طارئ. واعتبر أن هذه الإجراءات تعكس وعي القيادة المصرية بخطورة استخدام المياه كورقة ضغط سياسي من قبل بعض القوى الإقليمية والدولية.
ورغم التحديات، أشار الجمل إلى أن مصر لا تزال متمسكة باتفاقيات المياه التاريخية الموقعة بين دول حوض النيل، وتواصل دعم الجهود الأمريكية التي حاولت أكثر من مرة جمع الأطراف حول طاولة التفاوض، في وقت تستمر فيه إثيوبيا بالمراوغة والتهرب من الالتزامات القانونية التي تحفظ الحقوق المائية لدولتي المصب، مصر والسودان.
تحركات القاهرة في شرق إفريقيا: ردع للعسكرة وتوازن إقليمي
واعتبر الدكتور هاني الجمل، أن التحرك المصري في الصومال وشرق إفريقيا هو خطوة استراتيجية تهدف لحماية المصالح المصرية في المنطقة، خصوصًا ما يتعلق بأمن البحر الأحمر وحرية الملاحة الدولية.
وأكد أن التواجد المصري في جنوب البحر الأحمر يعكس رفض القاهرة لمحاولات “عسكرة” الممرات المائية، في إشارة إلى مبادرة “حارس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة، والتي قد تمهد لفرض قيود على التجارة العالمية، ما يؤثر على قناة السويس.
كما أشار إلى أن التحركات المصرية تمثل رسالة مباشرة إلى إثيوبيا، التي تسعى للحصول على منفذ بحري عبر “صومالي لاند”، في تجاوز للقانون الدولي وسط رفض أوروبي واسع. وتأتي هذه الخطوة من أديس أبابا مستغلة النزاع الداخلي الصومالي لتحقيق موطئ قدم على البحر الأحمر.
ورأى “الجمل” أن السياسة في المنطقة تقوم على المصالح لا التحالفات، مشيرًا إلى أن التقارب المصري التركي ساهم في تعزيز الحضور المصري واستثماراتها بشرق إفريقيا، ما يمنح القاهرة أدوات ضغط إضافية في مواجهة الطموحات الإثيوبية.
مصر بين الدبلوماسية والحذر العسكري
أكد الدكتور هاني الجمل، أن التحرك المصري تجاه أزمة سد النهضة يسير في اتجاهين: المسار الدبلوماسي عبر المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الإفريقي، والمسار الفني استنادًا إلى تقارير مكاتب أوروبية محايدة، حذّرت من المخاطر الجيولوجية والزلزالية المرتبطة بموقع السد، خاصة على السودان الذي قد يكون الأكثر تضررًا.
وأوضح “الجمل” أن الوضع المعقّد في السودان، في ظل الاحتراب بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، قد لا يسمح بانسجام كامل مع الموقف المصري حاليًا، إلا أن القاهرة تراهن على الدفع نحو توافق فني ودبلوماسي.
وأضاف أن مصر تسعى لإصدار قرارات دولية تعزز حقها في مراقبة تشغيل السد، من خلال لجنة فنية مشتركة تضم خبراء مصريين، لمتابعة تصريف المياه وتقييم المخاطر، وهي مطالب سبق أن طرحتها القاهرة مرارًا.
وشدّد الجمل على أن مصر تتحاشى الانزلاق إلى مواجهة عسكرية، رغم ما لمح إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في وقت سابق، مؤكدًا أن القاهرة تدرك محاولات جرّها لصدام مباشر لكنها في الوقت نفسه تحتفظ بـ”اليد الطولى” إذا استدعى الأمر ذلك، مشيرًا إلى قوة الجيش المصري وقدرته على حماية المصالح القومية إذا تجاوزت إثيوبيا الخطوط الحمراء.
سد النهضة.. ما بين تصعيد أحادي وأزمة إقليمية متفاقمة
لقد كشف حدث فتح بوابات سد النهضة عن أبعاد معقدة لأزمة لا تزال تتصاعد. فمن الناحية الفنية، كان الفتح ضرورة حتمية نجمت عن مشاكل في تشغيل التوربينات، وتفاقمت بسبب قرار سياسي أحادي سابق. ومن الناحية العملية، وقع التأثير المباشر والأكثر خطورة على السودان، الذي يفتقر إلى التنسيق اللازم لإدارة تدفقات المياه، مما يضع سدوده ومناطقه السكانية في خطر متزايد. أما مصر، فبفضل السد العالي، محمية حاليًا من الخطر المباشر للفيضان، لكنها تواجه تهديدًا استراتيجيًا ووجوديًا على المدى الطويل.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فقد أكد هذا الحدث التآكل الكامل للإطار القانوني المتمثل في “إعلان المبادئ” الموقع بين الدول الثلاث في مارس 2015. وأثبت أن إثيوبيا تفضل القرارات الأحادية على الالتزام بالقواعد الدولية؛ حيث إن المفاوضات التي استمرت طويلاً لم تكن سوى أداة إثيوبية لكسب الوقت لفرض سياسة الأمر الواقع.
وعليه، فإن مستقبل النيل الأزرق يواجه سيناريوهين رئيسيين: الأول، استمرار إثيوبيا في سياسة “الأمر الواقع” والإجراءات الأحادية، مما سيزيد من التوتر في المنطقة وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة. والثاني، عودة الأطراف إلى مبادئ القانون الدولي والتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم وشامل يضع إطارًا واضحًا لقواعد الملء والتشغيل. وفي غياب هذا الاتفاق، ستبقى الأزمة عنوانًا لصراع وجودي يهدد استقرار المنطقة برمتها.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.