قراءة في المشهد اللبناني
بعد أشهر من التصعيد العسكري والدمار الذي أحدثه النزاع في غزة، دخل لبنان مرحلة هامة من التعافي على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، رغم أن الهدنة التي تم الاتفاق عليها في الصراع لم تكن حلاً دائمًا للمشاكل المتراكمة في البلاد. لبنان الذي يعاني من أزمات مزمنة على مختلف الأصعدة، يبقى في مفترق طرق، يتأرجح بين التفاؤل الحذر والقلق المستمر من انهيار الدولة. في هذا المقال، سنحاول تسليط الضوء على تطورات الوضع اللبناني بعد الهدنة، والتحديات التي يواجهها في مختلف المجالات.
الوضع السياسي: هدوء هش في ظل الانقسام
منذ بداية الأزمة السياسية في لبنان التي بدأت مع فراغ الرئاسة في عام 2014 وتفاقمت بعد الانفجار المدمر في مرفأ بيروت في أغسطس 2020، كان الوضع السياسي اللبناني يعاني من حالة من الجمود والتوتر المستمر. بعد الهدنة التي تمت في السياق الإقليمي، خاصة في غزة، شهد لبنان نوعًا من الهدوء النسبي، ولكن هذا الهدوء يبقى هشًا في ظل الانقسامات السياسية الحادة بين القوى اللبنانية.
القوى السياسية اللبنانية لا تزال منقسمة على نفسها بشكل واضح بين تحالفات متعددة، ففي وقت تعاني فيه القوى التقليدية مثل “التيار الوطني الحر” و”تيار المستقبل” من أزمة تمثيل وتراجع شعبية، يظل حزب الله قوة سياسية وعسكرية ذات تأثير كبير في المعادلة الداخلية. رغم محاولة القوى السياسية تعزيز الحوار، إلا أن الهوة بين مختلف الأطراف لا تزال قائمة، مع تصاعد النقاشات حول كيفية بناء مستقبل مشترك للبنانيين. لا تبدو الساحة السياسية اللبنانية قادرة على تحقيق توافق وطني حقيقي في ظل غياب دور فاعل للطبقة السياسية في معالجة الأزمات المتزايدة.
التحديات الاقتصادية: أزمة تتعمق وتزداد تعقيدًا
لا يمكن الحديث عن لبنان في ظل الهدنة دون تناول الوضع الاقتصادي المتدهور بشكل ملحوظ. الاقتصاد اللبناني كان يعاني قبل أي تصعيد إقليمي أو نزاع خارجي، والآن، بعد الهدنة، لا تزال التحديات الكبرى قائمة.
لبنان يواجه أزمة اقتصادية خانقة، حيث تواصل الليرة اللبنانية انهيارها أمام الدولار الأمريكي، مما يؤدي إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وزيادة معدلات الفقر. وفقًا للأرقام الرسمية، يعيش أكثر من 80% من اللبنانيين تحت خط الفقر. على الرغم من محاولات الحكومة اللبنانية الحصول على مساعدات من المجتمع الدولي، إلا أن الإصلاحات المطلوبة للحصول على هذه المساعدات لا تزال غائبة. استمرارية الحصار السياسي المحلي وعدم قدرة الحكومة على اتخاذ إجراءات اقتصادية حاسمة تزيد من تعقيد الأمور.
في هذا السياق، تبرز أهمية الشراكات مع القوى الدولية والإقليمية لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، لكن لبنان يجد نفسه في موقف ضعيف بسبب انقساماته الداخلية وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تمنع الوصول إلى حلول جذرية. والمشكلة الأكبر تكمن في غياب رؤية اقتصادية متكاملة تسمح للبنان بتجاوز أزمته.
الأبعاد الاجتماعية: تدهور حاد في مستوى المعيشة
من الناحية الاجتماعية، يعاني اللبنانيون من تدهور حاد في مستويات المعيشة، إذ باتوا يشهدون انخفاضًا مستمرًا في جودة الخدمات العامة مثل التعليم والصحة. في وقت كان اللبنانيون يفخرون بنظام التعليم والخدمات الصحية المتقدمة، تحول هذا التفاخر إلى مجرد ذكرى في ظل الأزمة المستمرة. المؤسسات العامة تعاني من نقص حاد في الموارد، والنقص في الأدوية والمستلزمات الطبية أصبح أزمة يومية.
ولا يمكن إغفال التأثير النفسي الاجتماعي الذي يتركه هذا الوضع على المواطنين. العديد من اللبنانيين في سن الشباب يختارون الهجرة هربًا من الأوضاع السيئة، ما يؤدي إلى هجرة العقول وارتفاع أعداد الكفاءات التي تترك البلاد. الهجرة تمثل أحد أبرز تحديات لبنان اليوم، فهي تؤثر على نمو المجتمع وصياغة المستقبل، مما يجعل من الصعب بناء قاعدة اقتصادية واجتماعية صلبة في المستقبل القريب.
الأزمة الأمنية: تحديات الاستقرار
رغم الهدنة الإقليمية التي قد تكون أدت إلى نوع من التهدئة العسكرية في لبنان، إلا أن الوضع الأمني في البلاد يظل هشًا. لبنان، الذي شهد في السنوات الماضية العديد من التفجيرات والعمليات الأمنية التي كانت مرتبطة بالوضع الإقليمي، يواجه تهديدات مستمرة من الجماعات المتطرفة التي قد تستغل أي حالة فوضوية أو ضعف في الأمن لتحقيق أهدافها.
كما أن الحدود اللبنانية مع سوريا تظل مصدر قلق أمني مستمر. مع استمرار الأزمة السورية المجاورة، يتحمل لبنان عبءًا كبيرًا في استضافة أعداد ضخمة من اللاجئين السوريين، ما يخلق تحديات إضافية على المستوى الأمني، ويزيد من تعقيد المشهد الاجتماعي والسياسي. هناك مخاوف من تفاقم الأوضاع الأمنية مع أي تصعيد في المنطقة، مما يهدد استقرار البلاد.
التحديات الإقليمية والدولية: لبنان في عين العاصفة
المشهد اللبناني بعد الهدنة لا يمكن فصله عن التطورات الإقليمية والدولية. لبنان يقع في قلب الصراع الإقليمي بين القوى الكبرى، وأي تغيرات في سياسة هذه القوى تجاه الشرق الأوسط قد يكون له تأثيرات كبيرة على استقرار لبنان. التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، ومفاوضات السلام في المنطقة، والتحولات في العلاقات بين الدول العربية، كلها عوامل تؤثر بشكل غير مباشر على لبنان.
لبنان يعتمد بشكل كبير على الدعم الدولي، سواء من خلال الأمم المتحدة أو من خلال مساعدات من الدول الغربية والعربية. إلا أن المجتمع الدولي بات أكثر تشككًا في قدرة الطبقة السياسية اللبنانية على إجراء الإصلاحات المطلوبة، ما يعيق قدرة لبنان على الحصول على الدعم المالي الضروري لتجاوز أزماته. الهدنة في غزة، على الرغم من إيجابياتها في خفض التصعيد، تظل في النهاية جزءًا من مسرح كبير حيث يبقى لبنان معلقًا في الهواء بين الأطراف المتصارعة في المنطقة.
الخلاصة: التحديات لا تزال قائمة
رغم أن الهدنة التي تم التوصل إليها في السياق الإقليمي قد تساهم في تخفيف حدة التوتر العسكري في لبنان، فإن البلاد تبقى في أزمة عميقة ومعقدة على مختلف الأصعدة. التحديات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والأمنية تجعل من الصعب الحديث عن مرحلة تعافي سريعة. في ظل الوضع الحالي، يبقى لبنان بحاجة إلى إصلاحات جذرية وتوافق داخلي حقيقي، مع استراتيجيات خارجية تدعم استقرار البلد وتساهم في تقديم المساعدات المالية اللازمة لمواجهة الأزمات.
الطريق أمام لبنان مليء بالعقبات، ويعتمد مستقبله على قدرته على تجاوز الانقسامات الداخلية، وإيجاد حلول لمشاكله الاقتصادية والاجتماعية، مع الحفاظ على توازن دقيق في علاقاته الإقليمية والدولي.
الكاتبة / دينا الوتيدي
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.