مواجهات شرق الكونغو الدامية وانعكاساتها على المستقبل السياسى للبلاد
لم تبدا المعارك الطاحنة الدائرة في شرق الكونغو بين الجيش وحركة إم 23 في فبراير 2025 ، بل لها قصة طويلة يجب أن نمر عليها عرضا قبل التطرق لتلك المعارك والاشتباكات، حيث يعد الحصول على الموارد الطبيعية من جمهورية الكونغو الديمقراطية ليس بالأمر الجديد، ولا الجراح التي تسببها هذه الممارسة في البلاد.
فقد جلب المطاط والعاج والذهب والماس ، البؤس في الكونغو منذ القرن التاسع عشر على يد ليبولد الثانى الملك البلجيكي. ومنذ استقلال الكونغو عن بلجيكا في عام 1960، استغلت العديد من الجماعات المسلحة التي يزيد عددها عن 100 جماعة تعمل في الكونغو التعدين لتمويل عملياتها.
أما جذور مشكلة شرق الكونغو فيمكن اعادتها الى جوار الكونغو تحديدا. حينما أسفرت الإبادة الجماعية في رواندا من إبريل إلى يوليو 1994 عن مقتل ما بين 800 ألف ومليون من التوتسي والهوتو في غضون مائة يوم فقط. وبعد أن سيطر جيش بول كاجامي على رواندا وأنهى الإبادة الجماعية، فر نحو مليوني من الهوتو عبر الحدود إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، المعروفة آنذاك باسم زائير. وأثار تدفق اللاجئين التوترات ووضع الأساس لحربين رئيسيتين بدأتا في عام 1996 ولم تجرِ إليها جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا فحسب، بل وأيضاً أوغندا وبوروندي في منطقة البحيرات العظمى والعديد من البلدان الأفريقية الأخرى. فكان العنف الذى أودى بحياة 6 ملايين شخص في العقود التالية. كما أدى إلى انقلاب عام 1997 الذي أجبر رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية حينها، موبوتو سيسي سيكو، على ترك السلطة والذهاب إلى المنفى. وفي عام 2001، اغتيل خليفته لوران كابيلا بعد تحديه للقوات الرواندية التي ساعدته في الإطاحة بموبوتو. وحينما سيطر جوزيف كابيلا، نجل لوران كابيلا، على الحكومة بعد وقت قصير من اغتيال والده، ظل في الرئاسة حتى عام 2019، عندما أدت الانتخابات المثيرة للجدل إلى رفع مكانة فيليكس تشيسكيدي، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه خليفة جوزيف كابيلا.
وما يعنينا هنا، أنه مع تفاقم هذه التشابكات الدموية في الكونغو الديمقراطية وجيرانها، تقدمت أجزاء كبيرة من العالم الصناعي على المستوى التكنولوجي. وكانت احتياجات الدول المتقدمة تتطلب المعادن الموجودة في الكونغو الديمقراطية: الكوبالت للبطاريات. والتنتالوم، المشتق من الكولتان، للمكثفات. والقصدير للوحات الدوائر. والتنجستن، المستخدم لإنتاج أشباه الموصلات والضروري للألواح الشمسية. وكما حدث في كثير من الأحيان في ماضي الكونغو الديمقراطية، دفع شعب البلاد وأرضها الثمن الأغلى لاستخراج هذه المعادن. وظل العمل في قطاع التعدين محفوفًا بالمخاطر، مع وجود القليل من الضمانات لمنع الحوادث الكارثية أو التعرض المنهك للمواد الكيميائية السامة والهواء الملوث. وعادة ما لا تكفي الأجور لدعم حتى أبسط معايير المعيشة، وغالبًا ما يعمل الأطفال في سن المدرسة لمساعدة الأسر على تلبية احتياجاتهم.
وما تحدثنا به من قبل يمثل البيئة السياسية الحاضنة لمشكلة شرق الكونغو بشكل عام. أما الخاص فقد عانت المنطقة الشرقية الغنية بالمعادن في جمهورية الكونغو من الصراع لأكثر من 30 عامًا، منذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. فقد تنافس العديد من الجماعات المسلحة مع الجكومات المركزية على السلطة والثروة المحتملة في هذه الدولة الشاسعة. وأدى عدم الاستقرار إلى تفاقم الوضع في البلدان المجاورة، كما حدث في تسعينيات القرن العشرين عندما أسفرت عن صراعين كبيرين، أطلق عليهما اسم حربي أفريقيا العالميتين، وتسببت فى مقتل الملايين من الناس. وفى هذا السياق قادت حركة إم 23 جماعة من التوتسي، الذين يقولون إنهم كانوا في حاجة إلى حمل السلاح لحماية حقوق الأقلية.ويقولون إن العديد من الاتفاقات السابقة لإنهاء القتال لم تُحترم . لذا كونوا حركة اطلقوا عليها حركة ام 23، وأخذوا اسمهم من اتفاقية السلام التي تم توقيعها في 23 مارس 2009. وبعد وقت قصير من إنشائها في عام 2012، اكتسبت حركة إم 23 أراضي واستولت على مدينة جوما. وهي مدينة في إقليم شمال كيفو يقطنها أكثر من مليون شخص. وتقع على الحدود مع رواندا وعلى ضفاف بحيرة كيفو، وهي مركز حيوي للتجارة والنقل يقع على مقربة من مدن التعدين التي تزود بالثروات المعدنية التي تحظى بطلب كبير. وقوبلت أفعال الحركة باستهجان دولي واتهامات بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان. وأُجبرت على الانسحاب من جوما، ثم عانت من سلسلة من الهزائم الثقيلة على أيدي الجيش الكونغولي إلى جانب قوة الأمم المتحدة التي شهدت طردها من البلاد. ووافق مقاتلو إم 23 بعد ذلك على الاندماج في الجيش مقابل وعود بحماية التوتسي.
على اية حال لم يدم هذا الاستقرار طويلا، فقد تطورت الأمور في عام 2021، حينما حملت جماعة ام23 السلاح مرة أخرى، بحجة انتهاك الوعود التي تم الاتفاق عليها. واتهمت جمهورية الكونغو الديمقراطية وتقارير متعددة للأمم المتحدة بقيام رواندا باستخدام الصراع كوسيلة لنهب المعادن الكونجولية، مثل الذهب والكولتان، الذي يستخدم في صناعة الهواتف المحمولة وغيرها من العناصر الإلكترونية مثل الكاميرات ودواخل السيارات. وتأزمت المسألة أكثر في السنتين الماضيتين حينما استولت حركة إم 23 على العديد من مناطق التعدين المربحة. وذكر تقرير صادر عن خبراء الأمم المتحدة في ديسمبر2024 بأن حركة إم 23 ترسل نحو 120 طناً من الكولتان إلى رواندا كل أربعة أسابيع. كما لاحظوا ارتفاعاً هائلاً في صادرات رواندا من المعادن في السنوات الأخيرة، وقالوا بأن معظمها يأتي من جمهورية الكونغو الديمقراطية. ونفت رواندا باستمرار مزاعم استغلال معادن جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ولم تكن الأمم المتحدة بعيدة عن مأزق شرق الكونغو، بل تسببت أحيانا في تفاقم المشكلة. فمنذ تأسيس بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة منذ عام 1999، كانت تتألف من قوة اطلق عليها اسم مونوسكو. وزاد عدد هذه القوة الان الى أكثر من 10000 جندي. ومع ذلك، من بين هؤلاء، يُسمح فقط للواء التدخل بتنفيذ عمليات هجومية ضد الجماعات المسلحة. وكانت هذه القوة قد ساعدت في هزيمة حركة إم 23 في عام 2013. لكن بعثة مونوسكو أصبحت في السنتين الأخيرتين هدفًا لغضب الكونغوليين العاديين الذين يرون أنها فشلت في القيام بوظيفتها. واعتبر الرئيس فيليكس تشيسكيدي، رئيس الكونغو، بأن البعثة فاشلة، وطلب منها المغادرة بحلول نهاية عام 2024. لكن المغادرة تأخرت حتى تم تمديد المهمة في ديسمبر لمدة عام آخر.
كما نشرت مجموعة تنمية جنوب إفريقيا (سادك)، وهي مجموعة إقليمية تضم 16 دولة، قوة عسكرية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، لكنها لم تتمكن من وقف المتمردين. وقالت جنوب إفريقيا بأن 14 من جنودها لقوا حتفهم في اشتباكات مع حركة إم 23. كما قُتل جنود من مالاوي وتنزانيا. وحذر سيريل رامافوزا، رئيس جنوب أفريقيا، رواندا من أن أي هجمات أخرى على قواتها ستعتبر “إعلان حرب”. ورد الرئيس الرواندي بول كاجامي، متهماً جنوب أفريقيا بأنها جزء من “قوة عدائية” متورطة في “عمليات قتالية هجومية”. وقالت الأمم المتحدة إن أوروجواي فقدت أحد جنودها الذي كان جزءًا من قوة مونوسكو. ومع كل تلك القوات وبعد تقدم سريع في الشرق، استولى مقاتلو حركة إم23 المتمردة على عدد من المدن والبلدات الرئيسية. وكان أول انقلاب كبير لهم في نهاية يناير2025 عندما استولوا على جوما.
ففي أواخر أبريل 2024، كانت حركة إم23 قد سيطرت على منجم بالقرب من بلدة روبايا في إقليم شمال كيفو. وحتى تلك النقطة من تاريخها، كانت الميليشيا تفرض ضريبة على تهريب المعادن إلى رواندا كمصدر للمال. وبعد الاستيلاء على روبايا، بدأت المجموعة نفسها في التعدين لأول مرة، مما جلب لها حوالي 800 ألف دولار دخلا شهريًا. وعندما استولى المتمردون على جوما، حذرت وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة من أزمة إنسانية كبرى مع نقص الغذاء والمياه، واكتظاظ المستشفيات بالضحايا والجثث الملقاة في الشوارع. كما استولى مقاتلو حركة إم23 على مدينة رئيسية أخرى في المنطقة، وهي بوكافو عاصمة إقليم جنوب كيفو. وتشمل المواقع الأخرى التي تخضع لسيطرة حركة إم23 ماسيسي وروتشورو وكاتالي. وهددوا في وقت سابق بمواصلة هجومهم على العاصمة كينشاسا، على الرغم من أنها تقع على بعد 2600 كيلومتر من مناطقهم.
ولم يقتصر تأثير الحركة على تهديد الحكومة بالسيطرة على العاصمة فقط، بل دخلوا مع معارك كثيرة استسلم فيها عدد كبير من الجنود الكونجوليين، بل على اثرها نشط في المنطقة اكثر من 100 جماعة مسلحة أخرى. لكن كان استيلاء حركة إم23 في 28 يناير على جوما، بمثابة تتويج لحملة بدأت بتقدم الجماعة المسلحة في جمهورية الكونغو في عام 2021. ومنذ 1 يناير 2025، قدرت الأمم المتحدة أن أكثر من 500 ألف كونغولي أُجبروا على ترك منازلهم، وفروا إلى أجزاء أخرى من الكونغو. وقُتل ما لا يقل عن 3000 شخص وجُرح ما يقرب من 2900 منذ سقوط جوما في أيدي الحركة. وتضم مقاطعتا شمال كيفو وجنوب كيفو وحدهما 4.6 مليون نازح داخلي، وهي حصيلة مأساوية لعقود من الصراع. ولقد سهّل عدم الاستقرار في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية تدفق المعادن المستخرجة بشكل غير مشروع خارج البلاد وإلى الأسواق العالمية. ويرجع هذا جزئياً إلى عدم قدرة الحكومة على الحفاظ على مستوى الوجود اللازم في المنطقة، وهو أمر ضروري لمراقبة أنشطة التعدين بشكل فعال.
وأدى وجود حركة إم 23، ووجود ما بين 3000 و4000 جندي رواندي وفقاً للأمم المتحدة، إلى تعقيد أي جهود لفرض الاستقرار في شرق الكونغو. بل ان قول بول كاجامي بأنه لا يعرف ما إذا كانت بلاده لديها أي قوات في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ودفاعه مراراً وتكراراً عن حركة إم 23 وغيرها من القوات المدعومة من رواندا، وبأنها ضرورية في الكونغو الديمقراطية لحماية التوتسي الكونجوليين، يزيد الأمور تعقيدا. وبطبيعة الحال رفض بعض المراقبين هذا التبرير. ولكن آخرين لاحظوا بأن المتحدثين باللغة الكينيارواندا، اللغة الوطنية في رواندا، غالباً ما يُنظَر إليهم بعين الريبة في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفى هذا السياق واصلت بعض القيادات الأفريقية الدعوة إلى إجراء محادثات بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا للمساعدة في حل الأزمة الفورية، بدءاً بوقف إطلاق النار الدائم. وفي الثامن من فبراير2025، دعت جماعة شرق أفريقيا وجماعة تنمية جنوب أفريقيا إلى انسحاب القوات الرواندية. وقد أدى التقدم الأخير لحركة إم 23 إلى نزوح مئات الآلاف من الناس وقتل عشرات الجنود من القوات الافريقية والاممية. وقد استولى المتردون على مواقع رئيسية، بما في ذلك جوما، أكبر مدينة في المنطقة، وفي الرابع عشر من فبراير استولت على مطار بوكافو، وهي مدينة تقع إلى الجنوب. ولعل مسارعة الدول الى اخراج رعاياها من الكونغو يدلل على تفاقم الأزمة. وعلى هذا فشلت الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي في معالجة الازمة، وفشلت جلسات مجلس الامن الدولي ومجلس السلم والامن الإفريقي ودعوات فرنسا وامريكا بتهدئة الأمور. ولذا فإن الامر يتطلب وساطات أخرى غير نمطية، وتفاهمات مباشرة بين الكونغو ورواندا والمتمردين. ودون هذا التفاهم، ستظل المشكلة دون حل، وبالتالي تؤثر على مستقبل الكونغو السياسي وتفاقم التوتر، وربما يمتد تأثيرها الى مستقبل رواندا السياسي نفسه في حال تدهور الأمور ودخول البلدين في مواجهة مباشرة.
الكاتب/ د. أحمد عبد الدايم، أستاذ التاريخ السياسي والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.