كتبت: هدير البحيري
أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلًا واسعًا بتصريحات حادة انتقد فيها القادة الأوروبيين، واصفًا إياهم بـ"الضعفاء"، ومشككًا في قدرتهم على التعامل مع ملفات الهجرة وإنهاء الحرب في أوكرانيا، في وقت تتكثف فيه الجهود الدبلوماسية الغربية لبحث مخرج سياسي للصراع المستمر منذ أكثر من عامين.
وفي مقابلة مع موقع "بوليتيكو"، ألمح ترامب إلى احتمال تقليص الدعم الأمريكي لكييف، معتبرًا أن دولًا أوروبية "آخذة في التدهور" فشلت في اتخاذ خطوات حاسمة، وتركت أوكرانيا "تقاتل حتى تنهار"، على حد تعبيره.
وتزامنت هذه التصريحات مع محاولات أوروبية للبحث عن دور أكثر فاعلية ضمن المسار الذي تقوده واشنطن لإنهاء الحرب، وسط مخاوف من أن تؤدي تسوية سريعة إلى تقويض المصالح الأمنية للقارة على المدى الطويل.
في المقابل، دافع عدد من المسؤولين الأوروبيين عن موقف القارة، إذ أكدت وزيرة الخارجية البريطانية إيفيت كوبر أن أوروبا تظهر "قوة" من خلال زيادة الاستثمارات الدفاعية واستمرار الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا، مشيرة إلى أن هناك "رئيسين يعملان من أجل السلام"، في إشارة إلى ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مقابل اتهام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بمواصلة التصعيد العسكري.
ويواصل ترامب في الوقت ذاته زيادة الضغوط على القيادة الأوكرانية للقبول باتفاق ينهي الصراع، داعيًا زيلينسكي إلى "التعاون" عبر تقديم تنازلات إقليمية لموسكو، وهو طرح أثار قلقًا واسعًا داخل كييف والعواصم الأوروبية، التي تخشى من أن يؤدي أي اتفاق غير متوازن إلى ترك أوكرانيا عرضة لهجوم روسي جديد في المستقبل.
من جانبه، شدد زيلينسكي على أن أوكرانيا وأوروبا تعملان بشكل مشترك على بلورة مكونات خطة محتملة لإنهاء الحرب، مؤكدًا استعداد بلاده لعرض هذه الرؤية على الولايات المتحدة، في إطار مساعٍ لتوحيد الموقف الغربي ومنع فرض تسوية لا تراعي المصالح الأمنية الأوكرانية.
وجاءت تصريحات ترامب في أعقاب اجتماعات أوروبية رفيعة المستوى ناقشت سبل تنسيق الجهود لوقف القتال، إلا أن الرئيس الأمريكي عبر عن تشكيكه في جدوى الدور الأوروبي، قائلًا إن القادة الأوروبيين "يتحدثون كثيرًا دون إنجاز فعلي"، بينما تستمر الحرب بلا أفق واضح.
وبالتوازي، أجرى مسؤولون أمريكيون محادثات منفصلة مع كل من روسيا وأوكرانيا في محاولة للتوسط لإنهاء الصراع، دون التوصل حتى الآن إلى اتفاق ملموس.
وفي هذا السياق، حث زيلينسكي القادة الأوروبيين وحلف شمال الأطلسي على الضغط على واشنطن لعدم دعم اتفاق ترى كييف أنه قد يضعف أمنها على المدى البعيد.
كما أثارت تصريحات ترامب بشأن ضرورة إجراء انتخابات في أوكرانيا جدلًا إضافيًا، رغم أن كييف تؤكد أن تنظيم الانتخابات غير قانوني في ظل الأحكام العرفية المفروضة منذ اندلاع الحرب، وهي نقطة طالما استغلها الكرملين في حملته الدعائية ضد القيادة الأوكرانية.
وفي بعدٍ أوسع، حذر ترامب من أن "الانقسامات الأيديولوجية" باتت تهدد بتفكيك التحالفات التقليدية بين واشنطن وأوروبا، معتبرًا أن تمسك القادة الأوروبيين بما وصفه بـ"المواقف الشكلية" أضعف قدرتهم على اتخاذ قرارات حاسمة.
وجاء هذا الخطاب متوافقًا مع ما ورد في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة، التي أثارت تساؤلات حول مستقبل العلاقة مع بعض الدول الأوروبية وقدرتها على البقاء حليفًا موثوقًا.
وقد قوبلت هذه الاستراتيجية بترحيب روسي لافت، إذ اعتبر مسؤولون في موسكو أنها تتماشى إلى حد كبير مع رؤية الكرملين، ما يعكس كيف يمكن لحدة الخطاب الأمريكي تجاه أوروبا أن تتحول إلى مكسب سياسي وإعلامي لروسيا، التي تسعى منذ بداية الحرب إلى تقويض وحدة الموقف الغربي.
وفي هذا الإطار، قال الدكتور حسام البقيعي، مدير وحدة الدراسات الدولية بمركز رع للدراسات الاستراتيجية، في حوار خاص لـ"نافذة الشرق" إن تصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تجاه القادة الأوروبيين يرجع إلى عدة عوامل رئيسية.
وأوضح البقيعي أن العامل الأول يتمثل في رغبة ترامب في إنهاء الحرب، باعتبارها أحد أهم بنود برنامجه الانتخابي، وسعيه لتسجيل إنجاز شخصي على الساحة الدولية بوصفه "صانعًا للسلام في العالم"

وأضاف أن العامل الثاني يرتبط بسيطرة مبعوث الرئيس الأمريكي، ستيف ويتكوف، على ملف التفاوض، لافتًا إلى أن خلفيته كمطور عقاري تجعله لا يولي اهتمامًا كبيرًا للقانون الدولي أو لجذور الصراع، بقدر تركيزه على منطق الصفقات السريعة.
وأشار إلى أن هذا التوجه ينطلق من قناعة لدى المبعوث الأمريكي بأن روسيا ستنتصر في نهاية المطاف وتحقق أهدافها، وأن من الأفضل لأوكرانيا وقف الحرب في الوقت الراهن لتفادي مزيد من الخسائر.
وأضاف البقيعي إلى أن العامل الثالث يتمثل في اقتراب دخول إدارة ترامب العام الثاني من ولايته الثانية دون تحقيق أبرز الوعود التي قامت عليها حملته الانتخابية، ما يفرض ضغوطًا إضافية على الإدارة الأمريكية.
ولفت إلى أن العامل الرابع يرتبط بعدم قدرة واشنطن على الاستفادة من صفقة المعادن التي وقعها ترامب مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، نتيجة استمرار الحرب.
أما العامل الخامس، فيتعلق — بحسب البقيعي — برؤية ترامب وإدارته لعدم قدرة أوروبا على الاستمرار في مساندة أوكرانيا، وهو ما ظهر بوضوح في وثيقة الأمن القومي التي أصدرتها الإدارة الأمريكية، والتي اعتبرت أن أوروبا على حافة التفكك، وأن الخطر الحقيقي الذي يواجه القارة ينبع من داخلها، وليس من روسيا أو الصين.
وأوضح البقيعي أن هذه الرؤية تتطابق مع الطرح الذي قدمه نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس خلال مؤتمر ميونيخ للأمن.
وفيما يخص تماسك التحالف الغربي، قال البقيعي إن حالة الانقسام الأوروبي كانت قائمة قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، مشيرًا إلى تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي تحدث فيها عن "موت سريري" للاتحاد الأوروبي، ودعوته إلى الاستقلال الاستراتيجي للقارة، وهو ما اعتبره أحد العوامل التي شجعت روسيا على اتخاذ قرار الحرب.
وأضاف أن عودة الرئيس الأمريكي ترامب إلى البيت الأبيض نقلت الانقسام من الداخل الأوروبي إلى ما بين ضفتي الأطلسي، بعد أن كان الموقف الأوروبي قد توحد نسبيًا تجاه الحرب في أوكرانيا.
وأوضح البقيعي أن الحرب الروسية الأوكرانية لم تكن العامل الوحيد وراء هذا الانقسام، بل يعود السبب الرئيسي إلى رؤية ترامب للعالم وللنظام الدولي الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية، وكذلك لمؤسساته ذات الطابع فوق الوطني.
وأشار البقيعي إلى انسحاب الولايات المتحدة من عدد من المنظمات الدولية، مثل اليونسكو ومنظمة الصحة العالمية، ورفع شعار "أمريكا أولًا"، إلى جانب تفضيل التعامل الثنائي مع الدول الأوروبية ورفض مبادئ العولمة التي لا تزال أوروبا متمسكة بها، لافتًا إلى أن الإدارة الأمريكية تتقاطع في هذه الرؤية مع روسيا إلى حد كبير.
وبناءً على ذلك، يرى البقيعي أن حالة الانقسام بين ضفتي الأطلسي قد تتصاعد خلال الفترة المقبلة، ليس فقط بسبب الخلاف حول الحرب الروسية الأوكرانية، بل أيضًا نتيجة رغبة الإدارة الأمريكية في تغيير النظام العالمي القائم على مبادئ "بريتون وودز" والعولمة، في مقابل تمسك أوروبا به.
وفيما يتعلق باستغلال روسيا لهذه الانقسامات، أكد البقيعي أن موسكو نجحت إلى حد كبير في ذلك، خاصة منذ لقاء الرئيس الأمريكي ترامب مع الرئيس الروسي بوتين في ألاسكا.
وأرجع هذا النجاح إلى اعتقاد روسيا بأن أوروبا، دون دعم الولايات المتحدة، غير قادرة على الاستمرار في مساندة أوكرانيا، وهو ما وصفه بأنه اعتقاد واقعي إلى حد كبير.
وأضاف البقيعي أن روسيا استطاعت أيضًا ألا تجعل الحرب في أوكرانيا الملف الوحيد في علاقتها مع واشنطن، حيث جرى بحث العلاقات الثنائية وسبل تطويرها.
وأشار إلى وجود توافق روسي–أمريكي في رفض النظام الدولي الحالي وقيم العولمة، ورفض وجود سلطة فوق الدولة، في انسجام واضح مع رؤية اليمين الأمريكي التي تعبر عنها إدارة ترامب.
وأكد البقيعي أنه في حال نجاح روسيا في إبعاد الولايات المتحدة عن دعم أوكرانيا، كما لوحت إدارة ترامب أكثر من مرة، فإن موسكو ستكون قد حققت كامل أهدافها، في ظل عدم قدرة أوروبا على تعويض هذا الدعم.
وفيما يخص الضغوط الأمريكية على أوكرانيا، أوضح البقيعي أنها تمثل عاملًا حاسمًا في مسار المفاوضات الجارية، لا سيما في حال رفع الدعم الأمريكي، مؤكدًا أن كييف لا تمتلك بدائل حقيقية لهذا الدعم، في ظل محدودية قدرة أوروبا على التعويض، فضلًا عن وجود انقسامات داخلية أوروبية، مع تماهي بعض القادة مع اليمين الأمريكي ورؤية إدارة ترامب، بل وحتى مع الطرح الروسي، مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، وبدرجة أقل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
وعن المسارات المحتملة، يتوقع البقيعي أن يؤدي استمرار الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة، مع احتمال وقف واشنطن مساعداتها لأوكرانيا، إلى منح روسيا فرصة لاستغلال الموقف وتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض.
كما يرجح أن تنجح أوروبا في إدخال تعديلات على مبادرة ترامب، مستندًا إلى وجود تباينات داخل الإدارة الأمريكية نفسها، ولا سيما بين نائب ترامب، جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو، الذي يرى ضرورة عدم تمكين روسيا من تحقيق أهدافها.
وأوضح البقيعي أن هذا التباين برز خلال الاجتماعات التي عقدها روبيو مع الدول الأوروبية في جنيف، مشيرًا إلى أن موسكو رفضت المبادرة الأوروبية بعد إدخال تعديلات على البنود التي كانت توافق عليها.
وفي المقابل، لا يستبعد البقيعي أن تتمكن أوروبا من توفير الدعم لأوكرانيا لمدة تصل إلى عامين، في حال التوصل إلى اتفاق بشأن استخدام الأصول الروسية المجمدة، وهو ما قد يؤدي إلى إطالة أمد الحرب والصراع.



