“تركيا ما بعد إمام أوغلو”.. هل تُغلق النافذة الأخيرة للمعارضة؟
كتبت: هدير البحيري
لم يكن اعتقال أكرم إمام أوغلو، عمدة إسطنبول وأبرز رموز المعارضة، مجرد تحرك قضائي عابر، بل لحظة فاصلة في المشهد السياسي التركي، قد يُعيد تشكيل قواعد اللعبة السياسية في البلاد.
ففي ظل تصاعد الضغوط على “حزب الشعب الجمهوري”، واتساع نطاق التوقيفات والإقالات، تتجه الأنظار إلى ما إذا كانت تركيا بصدد إغلاق آخر نوافذ التعددية السياسية، أم أننا أمام جولة جديدة من صراع طويل، تعيد فيه السلطة رسم ملامح المشهد السياسي قبل أي انتخابات مرتقبة.
زلزال سياسي: من اعتقال إمام أوغلو إلى تفكيك البلديات
في 19 مارس 2025، جاء الاعتقال الصادم: أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الذي أعاد إحياء المعارضة بعد فوزه المدوي في 2019 ثم تجديده في 2024، يُلقى به في سجن مرمرة بتهم ثقيلة كفيلة بمنعه من الترشح مستقبلاً، أبرزها: فساد، والتواصل مع حزب العمال الكردستاني، الذي تعتبره الحكومة التركية منظمة إرهابية، بل وحتى تزوير شهادته الجامعية، مما يعطل احتمالات ترشحه مستقبلاً للرئاسة.
لم يكن وقع اعتقال أكرم إمام أوغلو عابرًا. ففي غضون ساعات، اندلعت أكبر موجة احتجاجات شعبية تشهدها تركيا منذ سنوات، انطلقت من إسطنبول وامتدت إلى مدن عدة، وشارك فيها مئات الآلاف تحت شعار “الصحوة الشبابية”.
قابلت السلطات التركية هذه التحركات بحملة قمع واسعة، تم خلالها توقيف أكثر من 1100 محتج في الأيام الأولى فقط.
وتوسعت حملة الاعتقالات لتشمل طيفًا متنوعًا من فئات المجتمع، من طلاب جامعيين وصحفيين إلى نقابيين وموظفين في البلديات، في مشهد يعكس اتساع دائرة القمع وتحول الاحتجاجات إلى قضية عامة تتجاوز الاصطفافات الحزبية والانتماءات السياسية.
وبحسب تقارير حقوقية وإعلامية، فقد بلغ إجمالي عدد المعتقلين منذ 25 مارس وحتى منتصف يونيو نحو 2000 شخص، بينهم مئات وُضعوا رهن التوقيف الاحتياطي، في مؤشر واضح على تصاعد القبضة الأمنية وتشديد الخناق على المعارضة المدنية في البلاد.
وبالتزامن مع ذلك، بدأت الضربات تتوالى على المؤسسات المنتخبة. خلال الأسابيع التالية، طالت الإقالات والاعتقالات خمسة رؤساء بلديات آخرين من حزب الشعب الجمهوري، ليرتفع عدد المناصب المُفرغة من ممثلي حزب الشعب الجمهوري إلى أحد عشر منصبًا منتخبًا، في حملة وصفتها المعارضة بـ”تجريف مدني” يستهدف تعطيل إرادة الناخبين.
كما رفعت الحكومة دعاوى قضائية ضد شخصيات إعلامية وسياسية معارضة، مما يعمّق الشعور العام بأن السلطة القضائية تحولت إلى أداة تنفيذية لتصفية الحسابات السياسية، في مشهد يثير قلقًا داخليًا ودوليًا متزايدًا بشأن مصير الديمقراطية التركية.
التهم والاحتجاجات: معركة السيطرة على إرادة الناخب
وراء الاتهامات الموجهة إلى إمام أوغلو وقيادات حزبه، يظهر مساران متوازيان في استراتيجية التعامل مع المعارضة: أحدهما قضائي والآخر إداري.
فعلى الصعيد القضائي، تتسع دائرة التحقيقات لتشمل نحو 170 شخصية، بينهم 9 رؤساء بلديات حاليين وسابقين.
أما على الصعيد الإداري، فتسعى السلطة إلى توظيف هذه القضايا في معركة رمزية تهدف إلى إرباك تنظيم المعارضة وتقويض حضورها المؤسسي، خصوصًا بعد المكاسب التي حققتها في الانتخابات البلدية الأخيرة، لا سيما في المدن الكبرى.
الانقسام يطال “الشعب الجمهوري”: أزمة إمام أوغلو تتوغل إلى قلب الحزب
لم تعد أزمة أكرم إمام أوغلو محصورة في بلدية إسطنبول أو ساحات الاحتجاج، بل امتدت إلى عمق حزب الشعب الجمهوري، مهددةً تماسكه الداخلي.
فقد فتحت النيابة العامة تحقيقًا رسميًا في مزاعم تزوير نتائج المؤتمر العام الـ38، الذي أفضى إلى انتخاب أوزجور أوزيل خلفًا لزعيم الحزب التاريخي كمال قليتشدار أوغلو.
التحقيقات طالت شخصيات بارزة، على رأسها إمام أوغلو، ورئيس بلدية إزمير جميل توجاي، إلى جانب عشرة من قيادات الحزب، وسط اتهامات بالرشوة السياسية، وتزوير الأصوات، واستغلال موارد البلديات للتأثير على نتائج التصويت الداخلي.
وبحسب ما ورد في ملف القضية، يُشتبه بقيام إمام أوغلو بتقديم منافع مالية ووظيفية لمندوبين حزبيين لضمان فوز أوزيل، وهو ما نفاه الأخير بشدة، معتبرًا التحقيقات “تهديدًا سياسيًا مباشرًا”.
في المقابل، ردّت النيابة العامة بفتح تحقيق جديد ضد أوزيل نفسه بتهمة “إهانة موظف عام” بموجب قانون مكافحة الإرهاب، إثر تصريحاته التي وصف فيها التحقيقات بأنها “أداة ترهيب سياسي”.
من جهته، وصف الحزب اعتقال إمام أوغلو بأنه “انقلاب مدني” ودعا لانتخابات مبكرة، متهمًا الحكومة باستخدام القضاء لتفكيك المعارضة.
وردّ المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك، بالقول إن “اتهام القضاء بالتسييس هو إهانة للديمقراطية”، مضيفًا أن المعارضة “تلوذ بخطاب المظلومية للهروب من مسؤولياتها”.
وبينما نفى إمام أوغلو جميع الاتهامات الموجهة إليه، أثار صمت كمال قليتشدار أوغلو، الزعيم السابق للحزب، تساؤلات داخلية رغم وصفه للمحاكمة بأنها “مسيّسة وتستهدف الحزب من الداخل”.
صمت قليتشدار أوغلو: انسحاب تكتيكي أم نهاية دور؟
وفي حوار خاص لـ” نافذة الشرق ” قال المتخصص في الشؤون التركية، عبدالمولى علي ، إن صمت كمال قليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب الجمهوري السابق، يمكن قراءته من زاويتين.
الأولى: أنه قد يكون جزءًا من تفاهم ضمني داخل النخبة السياسية، سواء مع بعض مراكز النفوذ في الدولة أو داخل الحزب نفسه، لتجنب التصعيد أو إرباك المشهد أكثر، خاصة في ظل التوترات القائمة والانقسامات الداخلية في صفوف المعارضة. فربما يرى قليتشدار أوغلو أن تدخله الآن قد يُفسَّر كمحاولة لاستعادة دور أو نفوذ فقده، ما قد يُضعف موقف الحزب بدلًا من تقويته.
أما الزاوية الثانية، فهي أن صمته يعكس تراجعًا فعليًا في تأثيره السياسي، سواء بسبب نتائج الانتخابات السابقة التي حمّله كثيرون مسؤوليتها، أو نتيجة تحولات داخلية أضعفت نفوذه التنظيمي والإعلامي.
وفي هذا السياق، قد يكون غيابه تعبيرًا عن خروجه التدريجي من المشهد، سواء بإرادته أو بفعل موازين القوى الجديدة داخل الحزب وخارجه.
وتابع قائلاً: “في الحالتين، يبقى صمته لافتًا، خاصة في لحظة فارقة تتطلب من الشخصيات التاريخية مواقف واضحة، لا سيما حين يتعلق الأمر بمصير الحزب الذي قاده لعقد من الزمن.
وقد يكون صمته أيضًا محاولة مقصودة لإعطاء المساحة للقيادة الجديدة دون التدخل في تفاصيل المرحلة الانتقالية، خصوصًا بعد تعرضه لانتقادات متكررة بعد الانتخابات الرئاسية 2023”.
أزمة الحزب الأكبر: هل يواجه الشعب الجمهوري وصاية قضائية؟
مع تصاعد الحديث عن أزمة داخلية متفاقمة داخل حزب الشعب الجمهوري، بدأت تطرح تساؤلات جادة حول مستقبل الحزب ومصير المعارضة التركية ككل، خصوصًا إذا تطورت الأزمة إلى تدخل قضائي مباشر.
وفي هذا السياق، يرى عبدالمولى أن “فكرة تعيين وصي قضائي على حزب الشعب الجمهوري، باعتباره أكبر أحزاب المعارضة في تركيا، تمثل سابقة غير معهودة في الحياة السياسية التركية، لما قد تحمله من تداعيات عميقة على التوازنات داخل المعارضة، وموقع الحزب في النظام الديمقراطي”.
ورغم أن مثل هذا الإجراء لم يُتخذ بعد وقد لا يُتخذ أصلًا، فإن مجرد تداوله يطرح تساؤلات مقلقة بشأن مستقبل التعددية الحزبية في تركيا، واحتمالات اتساع التوترات الاجتماعية، فضلًا عن ردود الفعل المحتملة على المستويين الشعبي والدولي.
في المقابل، يرى عبدالمولى أن الخلافات الداخلية قد تجد طريقها إلى الحل عبر القنوات القانونية والمؤسساتية، ما قد يضمن استمرار المعارضة بشكلهـا الحالي دون حاجة إلى تدخل خارجي.
لكنه يحذر في الوقت نفسه من أن تفاقم الجدل الداخلي واتساع نطاقه قد يدفع بعض القوى السياسية إلى التفكير في إعادة هيكلة جبهة المعارضة، سواء من خلال تحالفات جديدة أو بروز فاعلين سياسيين بدلاء، ما يجعل ملامح المرحلة المقبلة رهينة بتطورات الداخل الحزبي وخيارات الفاعلين، سواء في السلطة أو المعارضة.
سيناريوهات ما بعد الشعب الجمهوري
يرى عبدالمولى أن تفكك أو إضعاف حزب الشعب الجمهوري، إذا استمر، قد يفتح الباب أمام تحالفات غير تقليدية بين قوى المعارضة، خاصة مع تصاعد الضغوط السياسية والقضائية على الحزب.
فغياب الكتلة المركزية التي يمثلها “الشعب الجمهوري” قد يدفع أطرافًا متباعدة أيديولوجيًا مثل القوميين المعارضين، واليساريين، والليبراليين، وحتى بعض التيارات الإسلامية المعتدلة إلى تجاوز خلافاتهم، والتعاون مرحليًا لمواجهة ما يُنظر إليه كمخاطر مشتركة تهدد الديمقراطية والتمثيل السياسي.
ويوضح عبدالمولى أن هذا النمط من التحالفات ليس جديدًا تمامًا على السياسة التركية؛ فقد ظهرت ملامحه في الانتخابات المحلية عام 2019، ثم تعزز خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية في 2023، حين توحدت قوى متباينة ضمن “تحالف الأمة”.
ومع تراجع الثقة في الضمانات الديمقراطية وتضاؤل دور الأحزاب التقليدية، قد تتزايد الحاجة إلى جبهة ديمقراطية عريضة تتجاوز الاصطفافات الأيديولوجية، إذا رأت هذه القوى أن الحفاظ على التعددية السياسية أولوية تتقدم على التمايز السياسي في هذه المرحلة الحرجة.
أزمة المعارضة التركية في مرآة الخارج
ويعتقد عبدالمولى أن تأثير التطورات السياسية الداخلية في تركيا، مثل احتمال تعيين وصي قضائي على حزب الشعب الجمهوري أو تراجع التعددية السياسية، قد يكون محدودًا على مستوى العلاقات مع واشنطن، موضحًا أن ترامب يُعرف بنهجه البراغماتي الذي لا يُعطي أولوية لمسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان في تعامله مع الحلفاء؛ ما يعني أن واشنطن تحت قيادته قد تُغضّ الطرف عن هذه المسائل طالما ظلت تركيا تؤدي دورًا فاعلاً في ملفات استراتيجية مثل: الحرب الروسية-الأوكرانية.
وفي المقابل، يُرجّح عبدالمولى أن الاتحاد الأوروبي سيظل أكثر تشددًا في تعاطيه مع أي تراجع ديمقراطي في تركيا، خاصة وأن البرلمان الأوروبي والعديد من العواصم الأوروبية يعتبرون الحفاظ على سيادة القانون والتعددية السياسية شرطًا أساسيًا لأي تقارب.
ولذلك، فإن العلاقات التركية-الأوروبية قد تتوتر أكثر في حال استمرار تفكيك المعارضة، بينما تبقى علاقات أنقرة بواشنطن في عهد “ترامب” محكومة بمعادلة المصالح الأمنية والاقتصادية، لا القيم الديمقراطية.
هشاشة اقتصادية في مواجهة التوتر السياسي
وأكد عبدالمولى على أن التطورات الأخيرة تُظهر أن الاقتصاد التركي بات هشًا أمام أي تصعيد سياسي؛ إذ تأثرت الأسواق بشكل ملحوظ عقب اعتقال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، ما أدى إلى انزلاق الليرة إلى أدنى مستوياتها التاريخية وتكبّد بورصة إسطنبول خسائر فادحة وسط موجة بيع مكثفة.
وأضاف أن هذا المشهد دفع المستثمرين إلى إعادة تقييم مخاطر الاستثمار في تركيا، في ظل تراجع الثقة بالمؤسسات وارتفاع كلفة التمويل. وإذا استمر هذا المسار، فقد تتجاوز الأزمة حدود التقلبات المالية لتتحول إلى أزمة اقتصادية شاملة تُهدد الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي.
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.