السويداء تحت الضغط.. تصدعات سياسية وارتدادات اقتصادية

2

كتبت: هدير البحيري

شهدت محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية جنوب سوريا، تصاعدًا لافتًا في التوترات الأمنية خلال الأسابيع الماضية، بلغ ذروته بمواجهات دامية بين فصائل محلية ومسلحين بدو على خلفية نزاعات اجتماعية متجذرة. لكن خلف هذا التصعيد تقف أزمات اقتصادية خانقة، ومشاعر متزايدة بالإقصاء، واتهامات للنظام السوري بتغذية الفوضى وإضعاف السلطة المركزية في المحافظة.
تُعد السويداء من المحافظات الزراعية ، التي لطالما اعتمدت على إنتاج التفاح والعنب والقمح. لكن منذ عام 2011، دخلت الزراعة في نفق مظلم بسبب شح الدعم الحكومي، وارتفاع تكاليف الأسمدة والمازوت والري إلى مستويات غير مسبوقة.
تفاقمت الأزمة مع موجات الجفاف، ما دفع عشرات الآلاف من المزارعين إلى ترك أراضيهم، وتوجه أغلب السكان نحو المدن الصغيرة بحثًا عن فرص عمل نادرة، في ظل انهيار القطاعين التجاري والخدمي.
في هذا السياق، عادت الخلافات التاريخية بين السكان الدروز والعشائر البدوية إلى الواجهة، خصوصًا مع ازدياد التنافس على الأراضي الزراعية ومصادر المياه.
واتهم ناشطون محليون مسلحين من بعض العشائر بالاستيلاء على أراضٍ زراعية بالقوة، بدعم ضمني من بعض أجهزة النظام، ما فجر مواجهات مسلحة في ريف السويداء الشرقي.
رغم التوتر المزمن، جاءت حادثة خطف شابين درزيين في يوليو الجاري من قبل مسلحين بدو، لتفجر شرارة المواجهات الأوسع. سرعان ما تطورت الحادثة إلى اشتباكات عنيفة استخدمت فيها الأسلحة الرشاشة والقذائف، وأسفرت عن سقوط قتلى وجرحى من الطرفين.
تدخلت بعدها فصائل محلية مدعومة من رجال دين دروز لطرد المسلحين من عدة قرى حدودية، وسط اتهامات بتورط ميليشيات مرتبطة بالنظام في إذكاء العنف.

خسائر بشرية فادحة ونزوح جماعي

أفادت مصادر محلية بوقوع خسائر بشرية فادحة جراء الاشتباكات في السويداء، إذ تجاوز عدد القتلى 1700 شخص، من بينهم عناصر أمن ومقاتلون من أبناء الطائفة الدرزية. كما سُجل نحو ألف مفقود و700 معتقل في أعقاب المواجهات.
وفي المقابل، قُتل أكثر من 1500 عنصر من قوات الجيش ومسلحين من العشائر، بعضهم نتيجة غارات جوية إسرائيلية استهدفت مواقع عسكرية في محيط المدينة.
ومن جانبها، أعلنت منظمة الصحة العالمية أن التصعيد أدى إلى نزوح أكثر من 145 ألف شخص، اضطر معظمهم لمغادرة منازلهم على عجل دون أن يتمكنوا من أخذ أي متعلقات شخصية، وتوجهوا إلى مراكز إيواء مؤقتة في درعا ودمشق وريفها.

جذور التوتر: تهميش طويل ومحاولات انفصال

على مدار عقود، واجهت السويداء اتهامات بالميول الانفصالية، خاصة مع غلبة المكون الدرزي في نسيجها الاجتماعي.
منذ انتخابات عام 1947 التي قاطعتها قيادات درزية، مرورًا بمحاولة الانقلاب الفاشلة، التي قادها الضابط الدرزي البارز سليم حاطوم عام 1966، ظل التوتر قائمًا بين المحافظة والدولة المركزية.
حتى في عام 2021، وُجهت لاحتجاجات مطلبية سلمية اتهامات مماثلة، في ظل سعي النظام لعزل المحافظة وتشويه حراكها الاجتماعي.
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، تبنى النظام بقيادة الرئيس السابق، بشار الأسد سياسة “التجاهل التكتيكي” مع السويداء، التي التزمت موقفًا محايدًا نسبيًا ورفض كثير من شبابها أداء الخدمة العسكرية.
تغاضت السلطة عن تنامي نفوذ الميليشيات المحلية وعصابات الخطف والتهريب، بل وُجهت اتهامات للنظام بتسهيل هجمات تنظيم “داعش” على المحافظة، أبرزها مجزرة يوليو 2018 التي أودت بحياة أكثر من 250 مدنيًا في ريف السويداء الشرقي.
منذ عام 2012، فقدت الدولة السيطرة الكاملة على مناطق واسعة من السويداء. انتشرت جماعات مسلحة محلية، بعضها يرتبط بالأجهزة الأمنية تحت مسمى “الدفاع الذاتي”، وأخرى تنشط في المناطق البدوية وتشارك في أنشطة تهريب السلاح والمخدرات، خصوصًا “الكبتاجون”.
ووفق تقارير محلية، تحولت المحافظة إلى محطة مركزية لشبكات تهريب “الكبتاجون” نحو الأردن والخليج، وسط اتهامات بتنسيق غير معلن مع “الفرقة الرابعة” التابعة لماهر الأسد.
وفي هذا السياق، كثفت السلطات الأردنية عمليات ضبط شحنات “الكبتاجون” القادمة من الجنوب السوري، فيما نفذت ضربات جوية استهدفت مواقع تصنيع وتهريب داخل السويداء ومحيطها.
وفي المقابل، زاد انخراط إسرائيل في متابعة ما يجري داخل المحافظة، مبررةً ذلك بحماية أبناء الطائفة الدرزية، وربطت بعض ضرباتها الجوية الأخيرة على دمشق بنداءات القيادات الروحية العليا للدروز، أبرزهم حكمت الهجري، الذي ناشد المجتمع الدولي التدخل لحماية السكان.

مشاورات أمنية غير رسمية بين سوريا وإسرائيل في باريس

كشف مصدر دبلوماسي سوري أن العاصمة الفرنسية باريس استضافت مؤخرًا جولة مشاورات أولية جمعت وفدين من سوريا وإسرائيل، بوساطة أمريكية غير معلنة، ركزت على احتواء التوتر الأمني المتصاعد في الجنوب السوري، ولا سيما في محافظة السويداء.
ورغم أن الاجتماعات لم تُفض إلى اتفاقات رسمية، فإنها أعادت تفعيل قنوات الاتصال بين الجانبين، في ظل اشتباكات تُعد من بين الأعنف منذ سنوات.
وأكدت دمشق خلال المشاورات على ثوابتها السياسية، وفي مقدمتها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ورفض أي وجود أجنبي أو مشاريع للتقسيم.
في المقابل، وضع الوفد الإسرائيلي خطوطًا حمراء واضحة، أبرزها منع عودة السلاح الثقيل إلى مناطق الجنوب السوري.

ماكرون يتدخل والشرع يرد: سيادة الدولة خط أحمر

بلغت المشاورات الأمنية ذروتها على مستوى الرئاسة، إذ أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اتصالًا هاتفيًا بنظيره السوري أحمد الشرع، دعا فيه إلى التهدئة وضمان حماية المدنيين، مشيدًا بالتفاهمات التي أدت إلى وقف إطلاق النار في السويداء.
في المقابل، شدد الشرع على تمسك بلاده بسيادتها الكاملة وأولوية مكافحة الإرهاب، في موقف فُهم على أنه رفض لأي تدخل خارجي يُعيد إنتاج تجربة تقويض الدولة.

أنقرة تدخل على الخط: تحذيرات من “مشاريع مشبوهة

لم تغب تركيا عن المشهد، إذ اتهم وزير خارجيتها هاكان فيدان إسرائيل بعرقلة جهود دمشق لاستعادة الأمن جنوب البلاد.
واعتبر أن التحركات الأخيرة تحمل مؤشرات لتفكيك الدولة السورية، مطالبًا بدعم تقني دولي لإعادة بناء مؤسساتها.

ومن جانبه، استبعد المحلل الاقتصادي المتخصص في الشأن السوري، أدهم قضيماتي، أن يمتد التوتر في السويداء إلى محافظات سورية أخرى، مرجعًا ذلك إلى الطابع السياسي للأزمة، المرتبط بموقع الطائفة الدرزية ضمن تركيبة الدولة، بخلاف مناطق أخرى كشرق وشمال شرق سوريا، حيث يتداخل العامل الاقتصادي بشكل مباشر مع الحراك المحلي، نظرًا لما تحتويه تلك المناطق من ثروات نفطية وزراعية.

وأكد قضيماتي، في حوار خاص لـ”نافذة الشرق” أن التصعيد الراهن في الجنوب لا يُعد مؤشرًا على انفلات اقتصادي شامل، موضحًا أن العاصمة دمشق تظل مرآة الاقتصاد السوري، حيث تُوقع الاتفاقيات، وتُعقد الفعاليات الرسمية، وتُرسم السياسات المالية والاستثمارية.
وقال: “لا أرى مؤشرات على تدهور اقتصادي إضافي في هذه المرحلة، بل هناك توجه نحو الاستقرار، لكن تنفيذه قد يحتاج ما بين ثلاث إلى خمس سنوات”.

وفيما يتعلق بقيمة الليرة السورية، يرى قضيماتي أن ضخ العملات الأجنبية في السوق عبر قنوات رسمية، إلى جانب اتفاقيات الاستثمار، التي تتم بموافقة حكومية، قد يسهم في تعزيز الاحتياطي النقدي ودعم سعر الصرف.
وشدد على أن “أموال المستثمرين تُدار اليوم عبر قنوات رسمية، وليست السوق السوداء هي المتحكم الرئيسي كما كان الحال سابقًًا”.
وأشار قضيماتي إلى أنه لا يوجد ما يدل على هروب رؤوس الأموال من السوق السورية في المرحلة الحالية، موضحًا أن البلاد لا تمتلك أصلًا قاعدة اقتصادية قوية بالمعنى التقليدي، كما أن كبار أصحاب الثروات – ممن كانوا مرتبطين بالنظام السابق – غادروا سوريا خلال سنوات الحرب، وهربوا أموالهم خارج البلاد.

وأوضح أن من تبقى من أصحاب رؤوس الأموال داخل البلاد هم من صمدوا خلال سنوات الحرب، ومن غير المرجح أن يغادروا الآن، مؤكدًا وجود مؤشرات على دخول أموال جديدة إلى السوق، إلى جانب عودة محتملة لبعض أصحاب المشاريع، رغم وجود حالة من التحفظ والترقب لدى المستثمرين، خاصة في ظل الأوضاع السياسية الراهنة.

وأضاف قضيماتي أن التخوف الأساسي في الوقت الراهن يرتبط بعدم وضوح مستقبل الاستقرار، ولا سيما في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، مشيرًا في الوقت ذاته إلى وجود دعم دولي واضح، خاصة من دول الخليج، لتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي في سوريا، وهو ما يقلل من احتمالات هروب رؤوس الأموال، على حد تعبيره.

وفيما يخص الحديث عن حالة ركود اقتصادي، اعتبر قضيماتي أن توصيف المشهد بهذه الطريقة غير دقيق، لأن سوريا لا تمتلك أصلًا اقتصادًا حقيقيًا في الوقت الراهن، بل تعاني من أزمة بنيوية تمتد منذ سنوات، مشيرًا إلى أن ما كان قائمًا قبل الثورة هو “اقتصاد عصابة”، تتحكم به فئة محدودة من المستفيدين.
وأوضح أن ما تشهده البلاد حاليًا هو ضعف حاد في القدرة الشرائية للمواطن السوري، إضافة إلى تأثر السوق المحلي بالأزمات الاقتصادية الإقليمية والعالمية، معتبرًا أن سوريا جزء من منظومة عالمية تعاني بأكملها من تبعات اقتصادية.

ورجح قضيماتي أن يشهد الاقتصاد السوري خلال العامين المقبلين تحسنًا نسبيًا في حال تحقق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي، مؤكدًا أن ذلك قد يفتح الباب أمام نمو استثماري تقوده فئات من السوريين في الداخل والخارج، إلى جانب مستثمرين أجانب مهتمين بإعادة الإعمار.
وبشأن دور البنك المركزي والمؤسسات النقدية الرسمية، رأى قضيماتي أن هذه الجهات “مغيبة فعليًا” عن المشهد الاقتصادي منذ عهد الأسد، وحتى بعد انطلاق الثورة، مؤكدًا أن غياب الأدوات النقدية الفعالة – كاحتياطي النقد الأجنبي وسعر الفائدة – يجعل من الصعب على البنك المركزي أن يلعب دورًا حقيقيًا في ضبط السوق أو إنعاش الاقتصاد.

وختم قضيماتي حديثه مشددًا على أن الطريق نحو التعافي يمر عبر إصلاحات حقيقية في القوانين والأنظمة، وتوفير بيئة جاذبة للاستثمار من خلال تسهيلات ملموسة، وهو ما يمكن أن يعيد للمؤسسات النقدية بعضًا من دورها المفترض في إدارة الاقتصاد.

Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.