السودان بين الدعم السريع والجيش إلى أين؟
إذا ما سئلنا أى مواطن عربى عن دولة السودان فسرعان ما سيصفها بالثراء ورغد العيش إذا ستقر حالها، وبأنها قارورة العسل ومخزن القمح ليس للسودانيين فحسب، بل لكل العرب أيضًا. فدولة السودان فى التراث العربى بشماله وجنوبه وشرقه وغربه هى بوابة كل الاساطير الجميلة، وموطنا للنبوءات الموعودة. وبإنقصالها إلى دولتين عام 2011 انزلق الجنوب لحرب اهلية أكلت كل شيء، واستمر الشمال تحت حكم البشير الى أن تم خلعه عبر ثورة اكتملت أركانها عام 2019. ومنذ هذا التاريخ وحتى اليوم، تناوب على حكم السودان عدة حكومات انتقالية، بعضها مدنى أاخر عسكرى. وبالتالى سيركز مقالنا على دولة السودان تميزا لها عن جنوب السودان، حيث ورثت الأولى اسم الدولة الأم وتسمت الثانية بجنوب السودان. ومن ثم فإن ما انتهت له الأمور فى السودان هو الخلافات التى ظهرت بين القوى السياسية حول الاتفاق الإطارى، فذهب كل فريق لفصيل عسكرى يستند عليه. ومن هنا تفاقمت الأمور بخروج قوات الدعم السريع عن سياق الجيش السودانى واعلان العصيان والتمرد، وبسيطرة هذه القوات على مطار مروى دون إذن من الجيش السودانى اندلعت الحرب بين الطرفين فى 15 ابريل 2023. وعلى الرغم من الإعلانات المتكررة عن وقف إطلاق النار، فإن القتال العنيف بين الجيش السودانى والدعم السريع اندلع في العاصمة السودانية الخرطوم في 15 أبريل، وانتشر بسرعة إلى أجزاء أخرى من البلاد فى الغرب فى ولايات دارفور، وفى الشرق، وفى منطقة الجزيرة وولاية سنار، ولا يزال القتال مستمراً حتى اليوم.
وبالنسبة للمدنيين الذين وقعوا في مرمى النيران المتبادلة، كانت العواقب كارثية. فقد اضطر أكثر من 14 مليون شخص إلى الفرار من منازلهم هرباً من العنف والدمار واعمال القتل والتشريد. ولم تعد معظم المرافق الصحية صالحة للعمل، وارتفعت معدلات الجوع والمرض بشكل مفجع. وأصبح أكثر من 20 مليون شخص يعانى من انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك ستة ملايين على شفا المجاعة، كما انهارت الخدمات الأساسية. حيث خلق القتال حالة طوارئ مستمرة داخل السودان وفي منطقة الجوار، وكلاهما ظل يكافح لايجاد طريقة للتعامل مع النزوح الجماعي والانهيار الاقتصادي.
وبالنظر لفعاليات القتال بين الدعم السريع والجيش السودانى، سنجد بأنها عبارة عن عمليات كر وفر، عانت فيها القوات المسلحة السودانية من هزائم فى بعض الجبهات، وانسحبت في كثير من الأحيان من قواعدها وتركت المدن في مواجهة تقدم قوات الدعم السريع. ثم كانت لها الغلبة فى نهاية المطاف، بتشتت قوات الدعم السريع واعلانه عن هزائم متكررة وتبريره لها بمساندة قوى خارجية. فحين استولت قوات الدعم السريع على جميع ولايات دارفور تقريبًا وولاية الجزيرة، لم تستطع الاستمرار فى السيطرة، حيث ظلت قواتها فى مرمى ضربات الجيش وهجماته. وفي الوقت نفسه، واصل الطرفان القتال في منطقة المدن الثلاث في الخرطوم وبحرى وام درمان لتأمين طرق الإمداد. وحين سيطرت قوات الدعم السريع على عاصمة ولاية الجزيرة، ود مدني، في 18 ديسمبر2023، غيرت القوات المسلحة السودانية من استراتيجيتها، حيث تركت العديد من الولايات لتطلق حملات تعبئة حسب اوضاعها، وسلحت ميليشيات الدفاع عن النفس، وعبأت المواطنين المضارين ضد الدعم السريع لرد عدوانهم. وركزت اشتباكاتها حول مواقع قوات الدعم السريع في جميع أنحاء العاصمة. ونفذت غارات جوية وقصفا مدفعيا على مواقع قوات الدعم السريع فى العاصمة وولاية النيل الازرق وغيرها.
ووسط هذه الاجواء الدامية عانى الناس في أنحاء كبيرة من السودان، وخاصة في دارفور، من العنف المستمر، بما في ذلك الحرب الحضرية المكثفة، وإطلاق النار، والقصف، والضربات الجوية. كما تعرض العاملون في مجال الرعاية الصحية والمرافق للهجوم والنهب. بل تشير التقديرات إلى نزوح ما يقرب من 14 مليون شخص، بما في ذلك نزوح 3 مليون شخص بحثوا عن الأمان في تشاد ومصر وجنوب السودان. وهو ما أوجد مستويات كارثية من سوء التغذية. ومع وجود عدد قليل جدًا من منظمات الإغاثة الدولية على الأرض، فإن الاستجابة الإنسانية لا تكفى بالمرة، وما ما يضاعف المشكلة ويساهم فى تعقيدها.
ومع دخول الحرب فى السودان لشهرها التاسع عشر، لا تزال القوتان المتحاربتان في صراع مميت على السلطة. فمنذ بدء الصراع قُتل ما يقرب من 61 الف فى ولاية الخرطوم فقط، بل ان الجهة التى قدمت هذه الاحصائية تقول بأن الرقم لا يمثل الا 5% فقط من تقديرات إجمالي الوفيات في ولاية الخرطوم. وهناك ما يقرب من 25 مليون نسمة، أي نصف سكان السودان تقريبا، يحتاجون إلى المساعدات. وفر ما يقرب من 2 مليون نازح سوداني إلى مناطق غير مستقرة في تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان. وفى هذا السياق تقود مخاطر الأمن الغذائي المتدهورة إلى أكبر أزمة جوع في العالم. وفي الوقت نفسه، فشلت جهود الوساطة في تحقيق نتائج حتى الان، حيث يرفض قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع وقف الحرب. ورغم قيام جهات دولية وغربية وعربية واقليمية بهذه الوساطة إلا أن اَذان طرفى الصراع صماء عن السماع. وهو الأمر الذى جعل مجلس الأمن الدولى وامريكا تضع عددا من قادة قوات الدعم السريع في قائمة العقوبات لدورهم في قيادة قواتهم للقيام بالتطهير العرقي وانتهاكهم لحقوق الإنسان، ومع هذا لم ترتدع تلك القوات.
ومع تبادل الاتهامات من قبل الجيش والدعم السريع، جددت الأخيرة اتهامها لمصر فى اكتوبر 2024 بقصف عناصر الدعم السريع في جبل موية بولاية سنار. ورغم نفى الخارجية المصرية المشاركة في الضربات الجوية على تلك المنطقة إلا أن تقرير للخارجية الأمريكية أظهر دعم الإمارات لقوات الدعم السريع وشراء الجيش السوداني لمسيرات من إيران. وانتهى إلى نتيجة مفادها بأن الحرب الأهلية المدمرة في السودان تتغذى جزئيا من الدعم الخارجي الذي يتلقاه طرفا الصراع. وعلى هذا النحو استخدمت روسيا حق النقض الفيتو في جلسة مجلس الأمن فى 18 نوفمبر 2024، لوقف مشروع القرار الذي تقدمت به بريطانيا وسيراليون بشأن الحرب في السودان، والذي تضمن نقاطًا تركزت على مبدأ حماية المدنيين والالتزام بإيصال المساعدات الإنسانية ووقف العنف الجنسي، والالتزام بتنفيذ مخرجات اتفاق جدة 11 مايو 2023. وهو ما دعا قائد الجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان للترحيب بالفيتو، ومشيرا بأنه لن يذهب باتجاه وقف إطلاق نار ما لم يصحبه انسحاب قوات الدعم السريع من المدن والقرى، وتجمعها في أماكن معلومة. كما أوضح بأن السودان لم يكن موافقا على مشروع القرار البريطاني أمام مجلس الأمن الدولي، لكونه معيبا وخادشا لسيادة السودان، ولكونه يساوى بين جيش الدولة الرسمى وقوات متمردة. وعلى هذا نحن أمام حرب لن تنتهى بمجرد رغبة اطراف خارجية فى ايقافها، ولكن برغبة الاطراف نفسها فى انهاء الصراع، أو باستسلام أحدهما للاخر وقبول شروط وقف القتال.
ووسط هذا القتال بين الجيش والدعم السريع، فإن السودان موبوء بنخبة لا تقدر مقدرات بلدها وعطاياها الالهية من مياه وأرض صالحة ومناجم ونعم أخرى كثيرة، فبعضها نخب فاسدة لا يفكر إلا فى مصالحه الشخصية، وبأى حصيلة يخرج من الغنيمة. وبعضها مخلب قط لقوى أجنبية توظفها كما تريد وكيفما تريد. وبعضها ليس له ناقة ولا جمل، فيفضل الابتعاد ولا يريد دفع التكاليف. وبين هذا وذلك يدفع الشعب السودانى الفواتير تلو الفواتير، ولا أحد يفكر فى انقاذه من تلك المحن، سواء من النخب المحلية أو من القوى الخارجية المتكالبة على عسل السودان وطحينه. بل إن سماع أصوات تلك النخب عبر القنوات الفضائية وعبر وسائل التواصل الاجتماعى وما يقدمونه من تخريجات يجعلك تقنع بأنه لا حل لمعضلات السودان اليوم أو الغد، حتى وان هدأ القتال وسكتت البنادق وتوافق أطراف الصراع على وقف الحرب. فحينها ستخرج تلك النخب لتتقاسم الكعكعة وتعيد الكرة من جديد.
الكاتب/ د.أحمد عبدالدايم، أستاذ التاريخ السياسى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة
Comments are closed, but trackbacks and pingbacks are open.