أوروبا وروسيا على حافة المواجهة: سباق النفوذ وإعادة رسم خريطة الأمن الأوروبي

كتبت علياء الهوارى

تصاعد التوتر بين روسيا والدول الأوروبية خلال الفترة الأخيرة أثار قلقًا دوليًا واسع النطاق وأعاد إلى الواجهة أسئلة حول مستقبل الأمن الأوروبي وإمكانية اندلاع مواجهة مفتوحة على القارة العجوز هذه التوترات، التي تصاعدت منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، ليست وليدة اللحظة، بل امتداد لصراع طويل حول النفوذ والسيطرة في أوروبا، يمتد جذوره إلى الحروب النابليونية وتقسيم القارة بعد الحرب العالمية الثانية
ويصف دكتور أكرم هواس، أستاذ جامعي وباحث في التنمية والعلاقات الدولية، الوضع الراهن بأنه تصاعد متوقع للتوتر الروسي الأوروبي، مشيرًا إلى أن الوصول إلى أوروبا كان أحد أهداف التدخل الروسي في أوكرانيا، بينما دفعت سياسات الناتو والقوى الأوروبية المصالح الروسية نحو التضييق عبر استراتيجيات اقتصادية وسياسية استفزازية
ويعكس هذا المشهد سباقًا عالميًا أوسع، إذ تغيرت موازين القوى الدولية بفعل بروز الدور الصيني، ما دفع الولايات المتحدة إلى إعادة بلورة استراتيجيتها العالمية. ووفق الباحث، فقدت أوروبا تدريجيًا أهميتها الاستراتيجية مقابل مواجهة التحدي الصيني وتطوير العلاقات عبر المحيط الهادئ في إطار المثلث الأمريكي-الآسيوي-الأسترالي

أدوات النفوذ الروسي وأهداف موسكو

أما روسيا، فتعتمد على أدوات متعددة لتعزيز نفوذها في أوروبا، من خلال الضغط الاقتصادي عبر تزويد القارة بالطاقة إلى استخدام قربها الجغرافي لتحديد الأولويات الأوروبية تجاه التهديد الروسي وتهدف موسكو من هذا النهج إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية دون الانزلاق إلى صراع مسلح شامل، مع مراعاة أن أوروبا تبقى جزءًا مهمًا من مصالحها الإقليمية
ولا تتوقف الأوراق الروسية عند الطاقة فقط، بل تشمل الثروات الطبيعية والمسارات الاستراتيجية الجديدة في القطب الشمالي، في وقت يعاني فيه الاتحاد الأوروبي من ضعف قدرته على تجديد مؤسساته، ما يفتح المجال أمام إعادة ترتيب الأوضاع السياسية والاقتصادية على القارة. ويبرز الصراع الجديد حول النفوذ بين روسيا وأوروبا في مجالات متعددة من الاقتصاد والسياسة إلى الجغرافيا الاستراتيجية، وهو ما يجعل الأوروبيين أمام تحديات كبيرة لإعادة رسم موازين القوة دون الانزلاق إلى الحرب

وعلى الصعيد الأوروبي، يبدو موقف فرنسا حاسمًا في قراءة التوترات الحالية، حيث حاولت باريس منذ انسحابها من الناتو في عهد ديغول استغلال الضغوط الخارجية لبناء قوة عسكرية أوروبية وتحويل القارة إلى ما يشبه "ولايات متحدة أوروبية". إلا أن هذه الطموحات اصطدمت بعجز فرنسا عن توفير القدرات العسكرية اللازمة وبالتدخل الأمريكي الذي دعم التحفظ الألماني تجاه إعادة عسكرة أوروبا. ويؤكد الباحث أن تصريحات ماكرون غالبًا ما تكون خطابًا إعلاميًا لا يعكس استراتيجية أوروبية حقيقية.

تحديات أوروبا المستقبلية

وتشير التحليلات إلى أن أوروبا على المدى الطويل ستواجه تحديات كبيرة على صعيد الأمن، قد تصل إلى حد تفكك الاتحاد الأوروبي. بعض الدول قد تبحث عن تحالفات جديدة مع الولايات المتحدة، وأخرى قد تقيم علاقات أقوى مع روسيا، بينما يمكن أن تنفتح بعض الدول على تقارب سياسي واقتصادي مع شمال إفريقيا. ويؤكد الباحث أن أوروبا ستشهد تغييرات كبيرة في بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية خلال السنوات المقبلة، ما سيعيد تشكيل ملامح الأمن الأوروبي لعقود قادمة
ومن الناحية العسكرية، يرى الباحث أن الصراع الروسي الأوروبي لن يتحول إلى مواجهة عسكرية كبيرة، مشيرًا إلى أن أوروبا لا تملك القدرة على مواجهة روسيا عسكريًا بشكل فعال، في حين أن موسكو لا ترغب في تدمير القارة بل في الوصول إلى مصالح استراتيجية واقتصادية ملموسة. ووفق هذا المنظور، يهدف الحوار الصامت الجاري بين الطرفين إلى الوصول إلى أفضل شروط للتعايش مع النفوذ الروسي بعيدًا عن مواجهات مسلحة مباشرة.

ويضع هذا التوازن الهش أوروبا أمام معضلة استراتيجية تتمثل في كيفية حماية مصالحها وإعادة رسم خريطة الأمن دون الانزلاق إلى صراع شامل. ويشير الباحث إلى أن الحلول تكمن في سياسات ومبادرات تحافظ على الحوار مفتوحًا وتقلل من خطر الصراع العسكري المباشر، مع أهمية التنسيق الداخلي الأوروبي وتطوير التعاون مع القوى العالمية على أسس مرنة بعيدًا عن التحالفات الجامدة التي قد تزيد من فرص المواجهة.

إعادة رسم التحالفات الدولية

ويؤكد الباحث أن إعادة النظر في موازين القوى لا يقتصر على أوروبا وحدها، بل يمتد إلى العلاقات الدولية الكبرى، حيث تلعب الولايات المتحدة والصين وروسيا أدوارًا متشابكة. وأي تحرك أوروبي منفرد دون تنسيق دولي قد يخلق فجوة في الأمن والاستقرار، بينما التعاون الاستراتيجي مع الفاعلين الدوليين قد يوفر فرصًا لتجنب الأزمة وتحقيق توازن أفضل بين النفوذ الروسي والأوروبي والأمريكي.

وفي النهاية، تبدو أوروبا أمام مفترق طرق حاسم، إما تعزيز وحدتها وتطوير قدراتها الدفاعية والاقتصادية لتصبح لاعبًا قادرًا على التفاوض مع موسكو من موقع قوة، أو الاعتماد على تحالفات خارجية قد تعيد رسم الخريطة الجيوسياسية بالقارة بشكل غير مسبوق. وفي كل الأحوال، سيعتمد مسار الأمن الأوروبي خلال العقود القادمة على قدرة القارة على المناورة بين النفوذ الروسي والأمريكي، مع الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية وتجنب الانزلاق نحو صراع عسكري مباشر.

ويبقى السؤال الأكبر هل ستنجح أوروبا في إعادة ترتيب أوراقها الاستراتيجية بما يحفظ أمنها، أم أن الأزمة الحالية مجرد بداية لفصل جديد من التوترات الطويلة الأمد؟ الإجابة لن تكون سهلة، لكن الحوار المستمر والتنسيق الدولي قد يحد من المخاطر ويمنح القارة فرصة للبقاء لاعبًا مؤثرًا على الساحة العالمية دون أن تتحول المواجهة إلى حرب مفتوحة.