إثيوبيا وتداعيات سد النهضة الراهنة والمستقبلية

 المتابع لمشكلة سد النهضة الاثيوبي يدرك طبيعة المنطق المعوج لاثيوبيا فى التفاوض مع مصر والسودان على مياه خلقها الله بالأساس للجميع. بل لو كان للماء لسانا ناطقًا لأخبر الاثيوبيين بما يتوجب عليهم فعله وبأن يغسلوا قلوبهم قبل أيديهم، وأنه حق لمصر والسودان كما أنه حق لاثيوبيا. غير أن عشر سنوات من التفاوض على السد، وهى مستمرة بالبناء حتى اكتمل هذا العام 2024 . أثبت بأن اثيوبيا قد أخرجت ما عندها من بضاعة مزجاة كاسدة لا تباع ولا تشترى. فقد ثبت بأنها لا تريد أن تبنى قصرا لنفسها فقط، بل تحرق مدنا كاملة وتعطش مزارع مثمرة مقابل قصرها المنشود. مع أن المياه العابرة للحدود حق للجميع، كفلتها كل الشرائع والاديان، ورسختها كل الاعراف والقوانين من الطرفين. وعلى هذا يمكن تشبيه منطق اثيوبيا فى بناء سدها بتلك المواصفات الضارة بمصر والسودان، وعدم تقاسم معلوماته مع دولتى المصب، بمنطق المحب الذى يقول لحبيته “تعال نتقاسم الليل، لك النجوم وأنت لى”. وكأن النيل نيلها، وكأن الأمر أمرها، والقرار قرارها.

 وفى هذا السياق فإن تداعيات بناء سد النهضة بسياسة الأمر الواقع، قد برره البعض بسلوك مصر الراهن في منطقة القرن الأفريقى وتصفية حساباتها فى نزاعها الطويل مع إثيوبيا حول استخدام مياه النيل. فحين اشتد الصراع بين الدولتين مع بدء المرحلة الخامسة من ملء خزان سد النهضة، وأيقنت مصر بطبيعة تهديدها لإمداداتها المائية وبالتالي للأمن القومي، ذهبت لمضايقة اثيوبيا فى منطقة أخرى. فأوقفت توجهاتها فى الحصول على منفذ على الساحل الشرقى لافريقيا عند مدخل البحر الاحمر فى بربرة أرض الصومال. وفى نفس الوقت تتابع الاصرار على حقها في الاعتراض على مشاريع البناء على نهر النيل الأعلى، وعلى صيغة تقاسم المياه المتفق عليها ثنائيا مع السودان. وتتمسك بحقوقها التاريخية فى معاهدات 1902 و1929 و1993 واتفاق مبادئ عام 2015، بل رفعت شكواها مع السودان لمجلس الامن الدولى خمس مرات منذ عام 2020 الى عام 2024.

 وعلى النقيض من ذلك، فإن الادارة المصرية لم تتعامل مع الملف الصومالى مرتبطا بسد النهضة. لكن بالرجوع الى ملف التفاوض المصرى الاثيوبى حول السد، سنجد أن اتفاق الرئيس عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الاثيوبى آبي أحمد في اجتماع القاهرة في يوليو 2023 على حل القضايا العالقة حول سد النهضة في غضون أربعة أشهر، كان هو القشة الأخيرة التى تسببت فى تأجيج المسألة. فبعد انقضاء مدة اربعة أشهر اخرى توقعت فيها مصر تحسنا فى شروط التفاوض، لم يتم إحراز أي تقدم. وتماشيا مع ذلك، وجدت مصر فرصة التنفيس عن نفسها حين فرض عليها ضرورة التدخل في الصراع بين إثيوبيا والصومال لممارسة الضغط على أديس أبابا فى موضوع اتفاقية أرض الصومال. ومع تعثر الجهود الدبلوماسية لحل النزاع المائي عبر مفاوضات سد النهضة، والتي توسطت فيها جهات خارجية مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأفريقي والإمارات العربية المتحدة وغيرها، ومع شعور القاهرة باستمرار التعنت الاثيوبى، جمدت الخارجية المصرية عملية التفاوض، وأعلنت عن حقها فى الدفاع عن حقوقها المائية بكل الوسائل الممكنة. حيث اقترب المشروع من الاكتمال، وبدأ إنتاج الكهرباء بالفعل. وتم ربط بعض التوربينات بالشبكة في أغسطس 2024، ومن المقرر أن تتبعها بقية التوربينات الـ 13 في الأشهر المقبلة. لكن من ناحية أخرى، فقدت مصر حليفها الرئيسي في صراع المياه وهو السودان، بسبب حربه الأهلية المستمرة منذ ابريل 2023. ومع تصديق جنوب السودان في يوليو2024، دخلت اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل حيز التنفيذ في أكتوبر، وهو ما يؤثر على موقف مصر والسودان مستقبلا، وفى ضوء رفض الدولتين التوقيع على تلك الاتفاقية، وبالتالى هما بعيدتان عن تاثيراتها. فعندما تم توقيع اتفاقية الإطار التعاوني فى عنتيبى أوغندا في مايو 2010 من قبل إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا، تلاها بعد فترة وجيزة، كينيا وبوروندي. وبعد أن صدقت جميع الدول الموقعة باستثناء كينيا على الاتفاقية، أصبحت جنوب السودان الدولة السادسة التي تحتاج إلى تنفيذ اتفاقية الإطار التعاوني. وبالتالى فإن اثيوبيا تتصدر المشهدين، مشهد سد النهضة ومشهد الاتفاقية الاطارية، وهو ما يزيد من غضب القاهرة ويراكم غيظها.

 ومن ثم فإن خطر وقوع حرب بين مصر وإثيوبيا لن يكون بالأمر الجديد، فقد سبق التلويح به عدة مرات. إحدها قيل بأنه غير واقعي بسبب المدى المحدود للقوات الجوية المصرية عند بداية بداية البناء. وثانيها تم استبعاده لكون الادارة المصرية لا تسعى لتحقيق هدفها من خلال العمل العسكري، وانها لن تلجأ له إلا بعد استنفاد اليات التفاوض. وطُرح ايضا بعد امتلاء الخزان هذا العام، ولكونه سيؤدي لفيضان كارثي في ​​السودان، تم قصر مخططه على احداث خرق بسيط او شرخ قليل فى جسم السد لتحييده عن العمل. ومع نشر القوات المصرية في الصومال قد يزيد خطر نشوب صراع عسكري مباشر بين البلدين. وبالمقابل تعول اثيوبيا على حقيقة مفادها أن وجود قوات مصرية متمركزة في الصومال، فإن العملية العسكرية التى ستقوم بها ستكون بعيدة عن حدودها، في حين يمكن لإثيوبيا أن تعمل من أراضيها. وإذا أسفر العمل المسلح من جانب مصر عن خسائر فادحة أو حتى فشل، فقد يؤدي هذا إلى دفع الشعب المصري إلى التشكيك علنا ​​في دور القوات المسلحة في البلاد، ويؤدى الى انتقاد المجتمع المدني للجيش المصرى. كما تعول اثيوبيا على عدم وجود دعم دولي وإقليمي للعمل العسكري المصرى اذا وقع. لذلك من غير المرجح أن تهدف تصرفات القاهرة إلى مواجهة عسكرية مباشرة مع اثيوبيا. بل إن التهديد بالتصعيد والحرب هدفه من وجهة نظر اثيوبيا إقناع الجهات الخارجية بالانخراط في نزاع مياه النيل نيابة عن مصر. غير أن ربط اثيوبيا بوجود مصر فى الصومال كرد فعل على تصرفات اثيوبيا فى موضوع سد النهضة، هو أمر بعيد عن الحقيقة والصواب، كون الصومال فى قلب استراتيجية الأمن القومى المصرى والعربى على الدوام. وكون اثيوبيا تربط هذا بذاك، فإن مصر قد أحسنت اختيار صيدها، وراحت تعزز سياستها فى مساعدة الصومال عسكريا وفنيا واقتصاديا لتقويتها على مواجهة اثيوبيا. وهو ما جعل البعض يقول بأن القاهرة ترغب في رؤية خصوم إثيوبيا الإقليميين يتعززون عسكريًا.

ولعل تركيز القاهرة على إريتريا يصب فى نفس الاتجاه، خاصة وأن علاقات أسمرة مع إثيوبيا قد تدهورت بشكل كبير منذ عام 2022 عندما قاتلت إريتريا إلى جانب القوات الإثيوبية ضد جبهة تحرير شعب تيجراي. وبالتالى عارضت إريتريا اتفاقية بريتوريا بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيجراي، والتي أنهت تلك الحرب، لأنها أحبطت هدف إريتريا المتمثل في تدمير جبهة تحرير تيجراي مرة واحدة وإلى الأبد. ولعل لقاء الرئيس المصرى مع الرئيس الاريتري بصحبة الرئيس الصومالى، على ارض اريتريا فى الشهر الماضى يصب فى صالح جبهة الحصار الى شكلتها مصر ضد اثيوبيا. حيث كثفت اريتريا علاقاتها مع مصر بشكل قوى وحاسم. وتعد القمة التى عقدت بين مصر وإريتريا والصومال في أكتوبر2024 هي علامة واضحة على هذا التقارب. وربما تكون ضغوط الحصار الذى فرضته اريتريا بتنسيقها مع مصر هى التى جعلت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية تقبل بوجود قوات إريترية في شمال تيجراي، ولا تعترض على هذا الوجود، حتى وإن كان بشكل مرحلى.

وعلى هذا فإن خطأ السياسة الاثيوبية فى عدم التوافق الرسمى حول موضوع سد النهضة فى مسألتى الملء والتشغيل سيظل هو الفتيل القابل للاشتعال فى أى وقت. خاصة إذا ما أقدمت اثيوبيا فى سنوات الجفاف وقلة المطر اذا ما حدثت مستقبلا، على التحكم بمياه السد ومنعت إمرار المياه التى تقيم الحياة لمصر والسودان، ستقع الكارثة. فهى بهذا الحال لا تخاطر بأمر يمكن التفاهم حوله، بل ستخاطر بمستقبلها وبسدها وباعادتها هى نفسها الى عصورها الوسطى. ففارق القوة العسكرية بين مصر واثيوبيا كبير للغاية، وحق الحياة مكفول للمصريين فى المنظمات الدولية والاقليمية، وبالتالى ستكون الضربة موجعة ومؤلمة، ولن تجد اثيوبيا بواكى عليها حينئذ. لأنها ستكون هى البادئة لهذه الحرب بمنع المياه، والبادئ فى كل الاعراف والقوانين هو أظلم.    

الكاتب/ د.أحمد عبدالدايم، أستاذ التاريخ السياسى والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة