اتفاق سلام تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان برعاية أمريكية يعيد رسم خريطة القوقاز ويقصي النفوذ الروسي

في خطوة وُصفت بأنها الأهم في تاريخ جنوب القوقاز الحديث، أعلنت أرمينيا وأذربيجان، من العاصمة الأمريكية واشنطن، التوصل إلى اتفاق سلام شامل ينهي نزاعًا استمر قرابة أربعة عقود حول إقليم ناغورنو كاراباخ. وجاء الإعلان في أجواء احتفالية بوساطة مباشرة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي استضاف القمة الحاسمة بحضور رئيس أذربيجان إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، وسط اهتمام دولي واسع باعتبار أن النزاع كان واحدًا من أعقد ملفات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

الاتفاق الذي تم الكشف عن بنوده تضمن التزامًا بوقف القتال بشكل دائم، واستئناف العلاقات الدبلوماسية، وفتح مجالات التعاون التجاري والسفر المتبادل، إضافة إلى احترام سيادة وسلامة أراضي الطرفين. وقد اعتبره الزعيمان خطوة تاريخية، فيما لم يتردد بعض المراقبين في القول إن وساطة ترامب قد تستحق جائزة نوبل للسلام نظرًا لما قد تحمله من آثار بعيدة المدى على أمن المنطقة واستقرارها.

ناغورنو كاراباخ… جرح تاريخي مفتوح منذ عقود

يمثل إقليم ناغورنو كاراباخ أحد أعمق الجروح في تاريخ القوقاز الحديث. ورغم أن المجتمع الدولي يعترف به كجزء من أذربيجان، فإنه ظل لعقود تحت سيطرة الأغلبية الأرمنية، التي أطلقت عليه اسم “آرتساخ” واعتبرته جزءًا لا يتجزأ من هويتها الوطنية. اندلعت الحرب الأولى بين أرمينيا وأذربيجان في الفترة ما بين 1988 و1994، وخلفت أكثر من 30 ألف قتيل، وأدت إلى نزوح أكثر من مليون شخص، معظمهم من الأذريين، فيما بقيت الكراهية وعدم الثقة متجذرة في وعي الأجيال الجديدة.

وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار منتصف التسعينيات، بقيت المنطقة عرضة لعمليات عسكرية متقطعة، كان أبرزها اشتباكات عام 2016 التي استمرت أربعة أيام وأسفرت عن مئات القتلى. ثم عادت المواجهات الكبرى في خريف 2020، فيما عُرف بـ”الحرب الثانية في كاراباخ”، حيث استعادت أذربيجان السيطرة على سبع مناطق محيطة بالإقليم ونحو ثلث مساحته، قبل أن تتوج هذا التقدم بعملية عسكرية خاطفة في سبتمبر 2023 أنهت الوجود الأرمني المسلح في المنطقة تقريبًا، ودفع عشرات الآلاف من الأرمن للنزوح الجماعي إلى أرمينيا.

مفاوضات شاقة وعقبات معقدة

طوال الأشهر الماضية، لم تكن الطريق إلى السلام مفروشة بالورود. فعلى الرغم من إعلان الطرفين في مارس الماضي عن صياغة مسودة اتفاق، ظل التقدم بطيئًا بفعل خلافات جوهرية، أبرزها مطالبة أذربيجان بتعديل الدستور الأرميني لإزالة أي نصوص تشير إلى حق إعادة توحيد ناغورنو كاراباخ مع أرمينيا، وهو مطلب تعتبره باكو ضروريًا لضمان عدم عودة النزاع مستقبلاً.

باشينيان دعا بالفعل إلى استفتاء شعبي لتغيير الدستور، لكنه لم يحدد موعدًا له بعد، وسط ضغوط سياسية داخلية ومعارضة من قوى قومية تخشى تقديم “تنازلات تاريخية”. كما واجهت المفاوضات عقبة أخرى تمثلت في الممر البري بطول 32 كيلومترًا، الذي تطالب أذربيجان بإنشائه عبر الأراضي الأرمينية لربطها بإقليم نخجوان المجاور لتركيا. الولايات المتحدة اقترحت إدارة دولية للممر لتخفيف التوتر، لكن أرمينيا أبدت تحفظات على الطرح، فيما أبدت إيران قلقًا من أي تغييرات جيوسياسية قد تمس مصالحها الاستراتيجية في شبكات المواصلات الإقليمية.

اتفاق يعيد رسم خريطة القوقاز

ينص الاتفاق على حظر نشر أي قوات من طرف ثالث على الحدود المشتركة، وهو ما يعني فعليًا استبعاد الدور الروسي، الذي كان قائمًا منذ 2020 عبر قوات حفظ السلام، وكذلك بعثة الاتحاد الأوروبي التي راقبت وقف إطلاق النار. كما يتعهد الطرفان بالتعاون في ملفات إنسانية حساسة، مثل الكشف عن مصير المفقودين، وسحب الدعاوى القضائية، والتخلي عن المطالبات المالية السابقة.

ويرى مراقبون أن هذا الاتفاق ليس مجرد إنهاء لحرب طويلة، بل هو إعادة تشكيل شاملة للخريطة السياسية والاقتصادية لجنوب القوقاز، وهي منطقة حيوية تمر عبرها خطوط الطاقة التي تربط آسيا بأوروبا. فإلى جانب تعزيز الاستقرار، قد يفتح الاتفاق الباب أمام استثمارات كبرى في البنية التحتية والنقل، خاصة مع حصول الولايات المتحدة على حقوق حصرية لتطوير ممر العبور الاستراتيجي في جنوب أرمينيا.

ممر أذربيجان ونخجوان.. أبعاد استراتيجية وتغير في موازين القوى

ومن جانبه، يرى الخبير والباحث في الشأن السياسي أحمد ماجد أن مشروع الممر الذي يربط أذربيجان بجيب نخجوان عبر أرمينيا يتجاوز كونه مشروعًا اقتصاديًا، إذ يعزز نفوذ باكو وتركيا في منطقة القوقاز، ويفتح طريقًا مباشرًا إلى آسيا الوسطى، ما قد يثير حفيظة روسيا وإيران، اللتين تعتبران المنطقة ضمن نطاق نفوذهما الجيوسياسي.

وأضاف ماجد أن هذا الممر قد يعيد رسم خريطة التحالفات الإقليمية، عبر تقوية المحور التركي الأذري وإضعاف الدور التقليدي لموسكو وطهران في المعادلة الإقليمية. كما أوضح أن المشروع قد يُستغل كأداة ضغط سياسي وعسكري إلى جانب دوره التجاري، ما يجعله نقطة تحول محتملة في موازين القوى بالمنطقة.

وأشار الخبير السياسي إلى أن تركيا قد تستخدم الممر لتعزيز روابطها التاريخية والثقافية مع دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، في إطار مشروع “العالم التركي” الذي تروج له أنقرة منذ سنوات، بينما ستعمل إيران وروسيا، كلٌ بطريقتها، على الحد من أي مكاسب استراتيجية قد تحققها باكو وأنقرة عبر هذا الممر.