عبد الرحمن السيد
في قلب القاهرة، حيث يقف المتحف المصري بالتحرير شاهدًا على آلاف السنين من الحضارة المصرية القديمة، كانت إسوارة ذهبية نادرة تزين إحدى خزائن معمل الترميم، في انتظار أن تُعرض ضمن مقتنيات تحكي للأجيال قصة مصر عبر العصور. هذه الإسوارة، ذات الخرز الكروي المصنوع من اللازورد والمنسوبة إلى الملك «أمنمؤوبي» من عصر الانتقال الثالث، تحولت خلال أيام قليلة من قطعة أثرية إلى عنوان أزمة هزت الرأي العام، وأثارت موجة من التساؤلات حول أمن الآثار في مصر.
من معمل الترميم إلى بلاغ رسمي
تعود تفاصيل الواقعة إلى التاسع من سبتمبر 2025، عندما تمكنت أخصائية ترميم بالمتحف المصري من التسلل إلى خزينة حديدية داخل معمل الترميم بأسلوب المغافلة، واستولت على الإسوارة الذهبية النادرة. ظل الأمر طي الكتمان لعدة أيام، حتى تقدم وكيل المتحف وأخصائي ترميم ببلاغ رسمي إلى وزارة الداخلية في الثالث عشر من الشهر ذاته، يفيد باكتشاف اختفاء القطعة الأثرية.
بلاغ الداخلية كان بمثابة الشرارة الأولى لفتح ملف حساس يتعلق بأمن واحد من أعرق المتاحف في العالم، حيث يُفترض أن تكون معامل الترميم أكثر الأماكن تحصينًا داخل المؤسسة. ومن هنا بدأت وزارة السياحة والآثار في اتخاذ سلسلة من الإجراءات القانونية والإدارية غير المسبوقة.
تحرك وزارة السياحة والآثار: لجان وحصر وتعميم الصورة
فور علمها بالواقعة، أحالت وزارة السياحة والآثار الملف إلى الجهات الشرطية المختلفة والنيابة العامة، وأبلغت كافة الجهات المعنية لاتخاذ ما يلزم من إجراءات. وأعلنت الوزارة تشكيل لجنة متخصصة لحصر ومراجعة جميع المقتنيات الموجودة بمعمل الترميم، للتأكد من سلامتها وعدم فقدان أي قطع أخرى.
وفي خطوة احترازية، قامت الوزارة بتعميم صورة الإسوارة المختفية على جميع الوحدات الأثرية بالمطارات المصرية والمنافذ والموانئ البرية والبحرية والحدودية على مستوى الجمهورية. وأوضحت في بيان رسمي أن الصور المتداولة على بعض المواقع الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي لا تخص القطعة المختفية، مؤكدة أن الأساور الظاهرة في هذه الصور معروضة بالفعل في قاعات الدور الثاني بالمتحف، وأن الإسوارة محل التحقيق مختلفة عنها تمامًا.
كما شددت الوزارة على أن تأجيل الإعلان عن الواقعة جاء حرصًا على توفير المناخ الملائم لضمان سير التحقيقات بعيدًا عن الضغوط الإعلامية، في خطوة وصفتها بعض المصادر بأنها محاولة للحفاظ على سمعة المؤسسة في لحظة حساسة تسبق افتتاح المتحف المصري الكبير.
البرلمان يدخل على الخط: تساؤلات وهواجس
لم تمر الواقعة دون رد فعل داخل مجلس النواب. النائبة الدكتورة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي، تقدمت بسؤال رسمي موجه إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير السياحة والآثار بشأن حادثة اختفاء الإسوارة. وقالت في سؤالها إن فقدان قطعة أثرية نادرة من داخل معمل الترميم بالمتحف المصري يعد اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على تأمين تراثها الوطني وإدارته وفق أعلى المعايير الدولية، خاصة في ظل استعداد مصر لافتتاح المتحف المصري الكبير.
وأشارت النائبة إلى أن معمل الترميم هو المكان الذي يُفترض أن يكون الأكثر تحصينًا لحماية المقتنيات الأثرية، ما يثير تساؤلات جوهرية حول كيفية تسريب أو سرقة القطعة. وطالبت بإعادة تقييم فعالية آليات التأمين والرقابة والمتابعة داخل المتاحف والمعامل والمخازن الأثرية بمختلف أنحاء الجمهورية، وبالكشف عن مدى كفاءة أنظمة الحصر والتوثيق المستخدمة حاليًا، وهل هي إلكترونية شاملة تتيح تتبع كل قطعة بدقة، وهل تُجرى مراجعات دورية مستقلة لهذه الأنظمة.
كما تساءلت عن كفاءة أنظمة الأمن الفيزيائي والرقمي، وهل تعمل كاميرات المراقبة بكفاءة ويتم الاحتفاظ بسجلاتها كاملة، وهل توجد أنظمة تحقق متعددة المستويات أثناء عمليات النقل والترميم، وهل تُطبَّق برامج تدريبية متخصصة للعاملين لتعزيز وعيهم بالمسؤولية والوقاية من التواطؤ أو الإهمال. وشددت النائبة على أن هذه الأسئلة لا تنفصل عن البعد الدولي، فالعالم يترقب افتتاح المتحف المصري الكبير باعتباره حدثًا ثقافيًا عالميًا، وأي حادثة من هذا النوع قد تؤثر سلبًا على صورة مصر أمام المجتمع الدولي.
الداخلية تفك اللغز.. ضبط الجناة وصهر الإسوارة
في الوقت الذي كانت فيه وزارة السياحة والبرلمان يعلنان خطواتهما، كانت وزارة الداخلية تتحرك على الأرض بخطوات سريعة. وبحسب بيان رسمي للوزارة، فقد أسفرت التحريات عن أن مرتكبة الواقعة هي أخصائية ترميم بالمتحف المصري، وأنها سرقت الإسوارة بتاريخ التاسع من سبتمبر أثناء عملها بأسلوب المغافلة، ثم تواصلت مع أحد التجار من معارفها – صاحب محل فضيات في السيدة زينب بالقاهرة – لبيعها.
وبحسب البيان، قام التاجر ببيع الإسوارة لمالك ورشة ذهب بالصاغة مقابل 180 ألف جنيه، ثم قام الأخير ببيعها لعامل بمسبك ذهب مقابل 194 ألف جنيه، حيث قام بصهرها ضمن مصوغات أخرى لإعادة تشكيلها. وعقب تقنين الإجراءات، تم ضبط المتهمين جميعًا، وبمواجهتهم اعترفوا بارتكاب الواقعة، وتم ضبط المبالغ المالية حصيلة بيع الإسوارة بحوزتهم.
هذا التطور الدراماتيكي في القصة أعاد الطمأنينة جزئيًا إلى الرأي العام، لكنه في الوقت نفسه أثار موجة أخرى من التساؤلات: كيف يمكن لموظفة أن تنفذ مثل هذه الجريمة من قلب معمل الترميم دون أن يتم كشفها فورًا؟ وأين كانت أنظمة المراقبة والتوثيق؟ ولماذا لم تُكتشف الواقعة إلا بعد أيام؟
أبعاد أوسع: حماية التراث بين الثغرات والفرص
حادثة «السوار الفرعوني» فتحت بابًا واسعًا للنقاش حول آليات حماية التراث في مصر. فالمتحف المصري بالتحرير ليس مجرد مبنى، بل مؤسسة تضم خبرات ترميمية وأرشيفية كبيرة، وأي خلل أمني أو إداري فيه يلقي بظلاله على سلامة باقي المواقع الأثرية والمخازن المنتشرة في أنحاء الجمهورية.
ويرى خبراء أن هذه الواقعة يجب أن تكون جرس إنذار لتطوير أنظمة التأمين والحصر والتوثيق بشكل عاجل، خاصة في ضوء افتتاح المتحف المصري الكبير، الذي يُتوقع أن يستقبل ملايين الزوار من الداخل والخارج، وأن يكون محط أنظار العالم. ويؤكدون أن المطلوب ليس فقط كشف تفاصيل الواقعة واتخاذ إجراءات استثنائية بعد الحادث، بل وضع منظومة متكاملة ودائمة تتسم بالشفافية، وتُخضع العاملين والقيادات لمساءلة واضحة، وتتيح للبرلمان والرأي العام الاطمئنان إلى أن الحكومة تقوم بدورها الكامل في حماية تراثها وآثارها.
نجاد البرعي: سرقة الأسوارة الأثرية تكشف أزمة اجتماعية واقتصادية عميقة
وقال المحامي الحقوقي نجاد البرعي، تعليقًا على واقعة اختفاء الأسوارة الفرعونية التي ضبطتها الأجهزة الأمنية بعد بيعها لأحد الصاغة بمبلغ 190 ألف جنيه، إن الواقعة – إذا صحت – تعبّر عن أزمة اجتماعية واقتصادية أخطر من الجريمة ذاتها.
وأوضح البرعي أن قيام مصممة آثار بسرقة قطعة أثرية تدرك قيمتها التاريخية التي «لا تُقدَّر بثمن» ثم بيعها بمبلغ زهيد كهذا، يشير إلى أنها وصلت إلى وضع يجعلها غير قادرة على الانتظار حتى تجد مشترٍ مناسب بسعر معقول، فاختارت الطريق الأسهل ببيعها بأي ثمن.
وأضاف أن «الحرام دائمًا أسهل»، وأن البواعث لا تُشكّل ركنًا من أركان الجريمة، لكنها قد تدخل في تقدير العقوبة.
وأكد البرعي أن حوادث مثل سرقة سور الطريق الدائري، والأسوارة الأثرية، وسرقة قضبان ومهمات السكة الحديد، وحالات مشابهة أخرى، تحتاج إلى دراسة متعمقة من علماء الاجتماع لمعرفة علاقتها بالسياسات الاقتصادية المطبقة ونصائح صندوق النقد الدولي وتأثيرها على تماسك المجتمع وانتشار الجريمة بأنواعها المختلفة.
وختم بقوله: «الموضوع مش هزار، دا جد جدًا»، محذرًا من خطورة الظاهرة على الأمن المجتمعي في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة.
درس من قلب المتحف
اختفاء الإسوارة النادرة ثم ضبط الجناة يعكس وجهين لعملة واحدة، وجه يُظهر وجود ثغرات أمنية وإدارية يجب سدها فورًا، ووجه آخر يُظهر قدرة أجهزة الدولة على التحرك السريع وحسم القضايا الكبرى التي تمس سمعة مصر وتراثها. وبين هذين الوجهين، يبقى الدرس الأهم هو أن حماية الآثار المصرية ليست مجرد مسؤولية قطاع بعينه، بل هي مسؤولية وطنية تتطلب تكاملًا بين التشريعات والأنظمة الأمنية والتقنيات الحديثة، مع وعي وتدريب مستمرين للعاملين في هذا القطاع الحساس.
حادثة «السوار الفرعوني» قد تكون نقطة انطلاق نحو إصلاح أوسع، يعيد الثقة في منظومة حماية التراث المصري ويؤكد للعالم أن الحضارة التي صمدت آلاف السنين ستظل مصونة مهما واجهت من تحديات.