على الرغم من تطور أعمال الشركات متعددة الجنسيات الناشئة والتقليدية في افريقيا، وتضخم الاستثمارات الصينية والأمريكية وتناميها هناك، إلا أن حجم الاستثمارات المصرية في هذه القارة الشاسعة ضئيل جدا مقارنة بما سبق. ليس لكون مصر احدى الدول النامية ولا تستطيع ان تناطح الكبار، ولكن لأن الواقع يقول بأن الشركات متعددة الجنسيات تقوم بتوجيه الحكومات الأفريقية نحو التوجه العالمي لشركاتها المحلية وتعمل على احتكار الأسواق الافريقية.
وقبل أن نبدأ في رصد الاستثمارات الخارجية في افريقيا علينا أن نقرأ مشهد الاستثمارات الأجنبية في مصر نفسها. فلا يمكن لدولة أن تحقق نجاحا في الخارج وهى فاشلة في جذب الاستثمارات الخارجية اليها. وها نحن نرى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد وصوله لسدة الحكم مرة ثانية يطالب الدول التي ترغب في التعاون مع أمريكا بأن تستثمر في بلده بمئات المليارات واحيانا يضع أرقاما معينة. واذا أردنا أن نقرأ مشهد الاستثمار الأجنبي داخل مصر، فسنجد بأن المركز الإعلامي لمجلس الوزراء قد أكد في 14 يوليو 2024 على الجهود الحثيثة التي تبذلها مصر للتكيف مع تداعيات الأزمات العالمية المتوالية، وجذب المزيد من الاستثمارات، وتحسين تنافسية الاقتصاد الوطني، وتعزيز مرونته وزيادة قدرته على امتصاص الصدمات الداخلية والخارجية، من خلال اتخاذ التدابير اللازمة لتحسين مناخ الاستثمار، بما في ذلك تبني الإصلاحات التشريعية والمؤسسية وتطوير السياسات المالية والنقدية. واعتقد أن هذه الإجراءات هي التي جعلت تقرير الأونكتاد يقول بأن مصر قد أصبحت الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر بين الدول الأفريقية. وأنها تتلقى 18.6% من إجمالي الاستثمارات الموجهة إلى أفريقيا والمقدرة بنحو 52.6 مليار دولار في عام 2023، وأن النسبة زادت في السنة التالية. بل حصدت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس وحدها صفقات بقيمة 10.8 مليار دولار في مجالي الأمونيا الخضراء والهيدروجين، ناهيك عن صفقة بقيمة 4 مليارات دولار أعلنت عنها مجموعة من المستثمرين لإنتاج الهيدروجين الأخضر. وهو ما يعد نجاحا مصريا بامتياز, فبرغم الأزمات العالمية المتتالية، ارتفعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إليها من تسعة مليارات دولار في عام 2019 إلى 9.8 مليار دولار في عام 2023. بل جاءت مصر في المركز 32 من حيث الدول الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي تفرضها البنية التحتية في أفريقيا على النمو الاقتصادي والتنمية، برزت مصر كواحدة من أكثر الدول الأفريقية جذبًا للاستثمار. واستنادًا إلى بيانات البنك الدولي، فقد نمت القيمة الإجمالية لاستثمارات القطاع الخاص خلال عام 2024، مما رسخ مكانتها كمركز اقتصادي إقليمي رائد يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وفى هذا السياق أشارت وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي بأن قيمة الاستثمارات الخاصة بلغت 133.10 مليار جنيه مصري في الربع الأول من العام المالي 2024/2025. وهذا ما انعكس في قرار صندوق النقد الدولي بشان القرض المصري، وفى كونه قد أصبح أكثر ارتياحًا للتوقعات الاقتصادية والتمويلية لمصر. فحصلت البلاد في مارس 2024 على اتفاق لمضاعفة مساعدات صندوق النقد الدولي إلى أكثر من 8 مليارات دولار أمريكي. وتمت الصفقة بعد أن خفض البنك المركزي المصري قيمة الجنيه بنسبة 40٪ في محاولة لتلبية شروط صندوق النقد الدولي. ورغم هذه الثقة التي حصلت عليها مصر بهذه الإشادة الدولية، إلا أن ذلك كان له تأثير كبير على زيادة أسعار السلع والخدمات.
ومما سبق يتضح بأن مصر هي وجهة الاستثمار الأولى في افريقيا، وأن هذا التصنيف جعلها أيضا قبلة الاستثمار الأولى لدول تجمع كوميسا، وان يكون ميزان التبادل التجاري في صالحها. واذا ما ذهبنا الى مقارنة بينها وبين جنوب افريقيا عبر القارة الافريقية، فلا يمكن استبعاد دور الشركات متعددة الجنسيات الناشئة في جنوب أفريقيا ومصر. فتقول الإحصاءات الإجمالية بنمو الشركات متعددة الجنسيات في كلا البلدين بشكل ملحوظ، وبوتيرة مختلفة خلال الفترة من عام 1990 إلى عام 2016. ومع ذلك، فقدت أرضًا كبيرة في مشهد الشركات متعددة الجنسيات الناشئة خلال تلك الفترة. ففي عام 2016، كانت جنوب أفريقيا تمتلك أقل من ربع حصتها في أوائل التسعينيات. ولم يتجاوز الاستثمار المصري الخارجي 1% من الاستثمارات المقابلة التي تمتلكها الاقتصادات الناشئة خلال نفس الفترة. وعلاوة على ذلك، كانت مؤشرات أداء الاستثمار الأجنبي المباشر الخارجي لكلا البلدين أقل من النسبة المذكورة سابقا في كثير من الأحيان، مما يشير إلى أنهما كانا يلعبان دورًا أصغر في الاستثمار الأجنبي المباشر الخارجي العالمي مما تستحقه اقتصاداتهما. وهذا ما يعيق قدرة الاستثمارات الافريقية على منافسة الاقتصاديات الكبرى أو حتى منافسة الشركات متعددة الجنسيات بنوعيها التقليدي والناشئ داخل افريقيا.
وبعيدًا عن القطاع المالي، احتل قطاع التعدين والمحاجر المرتبة الأولى بالنسبة للشركات المتعددة الجنسيات في جنوب أفريقيا، في حين كان القطاع الصناعي هو الأكثر أهمية بالنسبة للشركات المتعددة الجنسيات في مصر. وقد هيمن القطاع الخاص، بدرجات متفاوتة، على كل من الشركات المتعددة الجنسيات في جنوب أفريقيا ومصر. وعلى غرار الشركات المتعددة الجنسيات الناشئة، أظهرت الشركات المتعددة الجنسيات في جنوب أفريقيا ومصر تفضيلًا ملحوظًا للاستثمارات الجديدة على عمليات الدمج والاستحواذ كأسلوب لدخول السوق الأجنبية، ووضع استثماراتها الجديدة في الأسواق القريبة. بل أثبت البحث الأولى بأن الانفتاح التجاري وبراءات الاختراع والناتج المحلي الإجمالي ومعدل نمو الناتج الإجمالي في جنوب أفريقيا ومصر هي المحركات الرئيسية للاستثمار الأجنبي المباشر الخارجي. وعلى النقيض من ذلك، فإن عدد اتفاقيات الاستثمار ومعدل الاستثمار الأجنبي المباشر الداخلي لا يؤثران بشكل كبير على قرارات الاستثمار الخارجي للشركات في جنوب أفريقيا ومصر. وفيما يتعلق بعوامل الجذب، فإن حجم السوق ووفرة الموارد والقرب بين الوطن والبلد المضيف هي عوامل جذب مهمة لكل من الشركات المتعددة الجنسيات في مصر وجنوب أفريقيا. ورغم أن توافر الأصول، والانفتاح التجاري، وجودة قطاع الخدمات، والتصدير إلى الدولة المضيفة، وسعر الصرف الرسمي للوجهة المستقبلة، وجودة المؤسسات، لا تؤثر على الشركات المتعددة الجنسيات في مصر، فإنها تؤثر بشكل كبير على اختيار المستثمرين الجنوب أفريقيين للأسواق الأجنبية. ولا يؤثر التضخم على اهتمام الشركات المصرية أو الجنوب أفريقيين باختيار سوق معينة للاستثمار فيها.
وإذا ما أخذا الاستثمار في الطاقة كأهم محاور القطاعات الافريقية الجاذبة والمطلوبة، فسنجد أن الدور المصري لا يزال بعيدا عن الطموحات المستهدفة في افريقيا. فدور الطاقة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية في افريقيا معترف به كهدف مهم من أهداف التنمية المستدامة، حيث يستهدف ضمان الوصول الشامل إلى خدمات الطاقة الحديثة والموثوقة وبأسعار معقولة، وزيادة حصة الطاقة المتجددة بشكل كبير، ومضاعفة المعدل العالمي للتحسن في كفاءة الطاقة. ومع الزيادة المتوقعة في عدد السكان والدخل والوصول إلى الطاقة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، من المتوقع أن يزداد الطلب على خدمات الطاقة. ويمكن تلبية هذه الزيادة من خلال زيادة العرض، وفي نفس الوقت تحسين كفاءة استخدام الاسر للطاقة. ونجحت مصر في تجربتين في هذا المجال هما تجربة بناء سد جوليوس نيريرى في تنزانيا لإنتاج الكهرباء وسد اخر فى الكونغو لنفس الأمر, رغم أن الحاجة الافريقية للكهرباء تعد من المطالب الافريقية الرئيسية، الا أن الواقع أقل من الطموح. فثلاثة أرباع سكان افريقيا بلا كهرباء، وبالتالي فإن هذا القطاع يحتاج الى مزيد من الجهد، ومصر متفوقة فيه على شركات عالمية. واعتقد أن فرصة الإدارة المصرية في الاستفادة من اعلان البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية عن مبادرة مشتركة لتوفير الكهرباء لـ 300 مليون أفريقي بحلول عام 2030 من خلال أنظمة الطاقة المتجددة وشبكات التوزيع، هي الأعلى من بين المتنافسين في داخل افريقيا وخارجها. فمن الممكن أن تستفيد من الفرص التي تتيحها تلك البنوك في ضمان الاستثمار المتعدد الأطراف، ودعم تنمية القطاع الخاص في أفريقيا.
وفى مجال الاستثمار العام داخل افريقيا، فقد دعت مصر إلى زيادة التعاون بين الدول الأفريقية لتحفيز النمو الاقتصادي، مع التركيز على تسهيل التجارة والاستثمار في جميع أنحاء أفريقيا. وطالبت عبر الاتحاد الأفريقي وعبر اجتماعات منطقة التجارة الحرة إلى تحديد سبل تسريع التجارة بين البلدان الأفريقية كمحفز للنمو الاقتصادي المستدام. وأكدت على أهمية تعزيز الشراكات مع بنوك التنمية المتعددة الأطراف مثل البنك الدولي لمعالجة تحديات التنمية في أفريقيا وتعزيز أجندة القارة 2063. وتحدثت مصر عبر منابر دولية مختلفة عن ضرورة توسيع الموارد المالية المتاحة للدول الأفريقية من المؤسسات الدولية لدعم تنفيذ أجندة التنمية 2063. وكان الحرص المصري على دعم التكامل بشكل أعمق مع نظيراتها الأفريقية كما هو موضح في خطتها لرؤية 2030، هو الذى جعلها تشدد مرارا وتكرارا على تعزيز التعاون بين بلدان الجنوب لتبادل الخبرات التنموية وأفضل الممارسات. وعملت الإدارة المصرية على تفعيل اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، بهدف توحيد أنظمة الدفع في جميع أنحاء أفريقيا، وتسريع التحول الرقمي، وتطوير البنية التحتية، وزيادة فرص الحصول على التمويل للشركات الناشئة والتكنولوجيا الرقمية، وتعزيز التكامل الإقليمي.
واعتقد أن مطالبات الرئاسة المصرية المتكررة بضرورة تعزيز الاستثمارات المصرية في دول القارة الإفريقية في العديد من المجالات، خاصة الاستثمار الزراعي، والمناطق اللوجستية، والأنشطة ذات الصلة مثل التصنيع الزراعي، كان لها دور فعال في تنامى الاستثمارات المصرية في افريقيا خلال فترة الرئيس عبدالفتاح السيسي. فقد شدد على إعطاء الأولوية للقطاع الخاص المصري لريادة تنفيذ مشروعات التعاون في هذا الصدد، كما وجه بقيام الحكومة بدراسة وإعداد الآليات المناسبة لخفض المخاطر المتعلقة بالاستثمار، وتقديم الدعم للمستثمرين، بما يحقق المصالح المشتركة لمصر وأشقائها فى القارة الإفريقية. وهو الامر الذى جعل الدولة المصرية تقوم بإنشاء صندوق ضمان مخاطر الاستثمار في إفريقيا. وتنظم عدة مؤتمرات خاصة بالاستثمار في إفريقيا سواء في شرم الشيخ او في العاصمة الإدارية الجديدة. الأمر الذى جعل الاستثمار المصري يزيد في إفريقيا ليبلغ ١٣ مليار دولار حسب إحصاءات ٢٠٢١. ولعل الدور الذى لعبته هيئة الاستثمار والتمثيل التجاري في تحليل الدول الافريقية المختلفة ومعرفة احتياجات كل دولة من صادرات وواردات، ونقل هذه المعلومات للشركات المصرية الراغبة في الاستثمار في إفريقيا، قد كان له تأثير كبير في زيادة هذه الاستثمارات. خاصة وأن معظم المستثمرين يتوجهون للأسواق التي لديهم معلومات جيدة عنها، أو من خلال عملهم في هذه الأسواق من قبل ومعرفته الجيدة بها.
وفى هذا السياق، أصبحت لدي الشركات المصرية استثمارات وخبرة غير مسبوقة في عملية الإنشاء والبناء والبنية التحتية. ولعل حديث وزير الخارجية المصري في أكتوبر 2024 عن مطالبة 20 دولة افريقية بدخول الشركات المصرية لأراضيها للاستثمار هناك، ليدلل على هذا التنامي لعملية الاستثمار المصري في افريقيا. ولعل حديثه عن وصول تلك الاستثمارات الى 14 مليار ليدلل على جهد كبير قد بذل فى هذا المجال. لكن ما بين واقع الـ 14 مليار والطموح في أن يصل الرقم الى 100 مليار بحلول 2060 سنجد أن الاستثمارات المصرية فى افريقيا تحتاج الى دفعة كبيرة للغاية. ففي 10 سنوات من حكم الرئيس السيسى تضاعفت الاستثمارات من 7 مليار الى 14 مليار. ولتزيد الاستثمارات الى الضعف كل عشر سنوات كما وهو مطلوب، بمعنى أن نضاعف الـ14 الى 28 ثم الى 56 ثم الى 100 مليار حتى نصل لسنة 2060، فهذا يتطلب مجهودا خارقا وتكاتفا كبيرا داخل مصر، وبيئة ضامنة للاستثمار داخل افريقيا، تتوقف فيها الصراعات والحروب الاهلية، وتستكمل خلالها أعمال البنية التحتية، وتزداد حجم التجارة البينية بين دول القارة. الأمر الذى يتطلب جهد ثنائيا بين مصر وكل دولة افريقية على حدة، وجهدا عبر الاتحاد الأفريقي لتذليل عقبات التنمية الافريقية، وتحريضا واسع النطاق للشركات المصرية للعمل فى المجال الافريقى، والاستفادة من مخططات الدول الافريقية لتنمية بلدانها.
د. أحمد عبد الدايم، أستاذ التاريخ السياسي والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة