كتبت بسمة هاني
في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات، بدأت القوات الأمريكية تنفيذ انسحاب جزئي من بعض مواقعها في شمال شرق سوريا. وبينما يُعدّ هذا التحرك مفاجئًا من حيث التوقيت، إلا أنه يعكس
وفقًا لما يراه محمد الليثي، الباحث والمحلل في الشؤون الدولية والاستراتيجية تحولات أعمق في أولويات الولايات المتحدة بالمنطقة، بل وقد يشير إلى إعادة تموضع تكتيكي في ظل تغير ميزان القوى الإقليمي والدولي.
يقول الليثي إن هذه الخطوة تأتي في لحظة شديدة الحساسية، حيث ما زالت المنطقة تعاني من هشاشة أمنية، وقد يؤدي الانسحاب إلى إحداث فراغ يمكن أن تستغله جماعات متطرفة كتنظيم “داعش” أو خلايا أخرى ما زالت نشطة في بعض الجيوب.
وهو ما يشير إلى أن انسحابًا غير مدروس قد يهدد الاستقرار النسبي الذي تحقق بشق الأنفس خلال السنوات الأخيرة.
دور قوات سوريا الديمقراطية بعد الانسحاب
ويضيف الليثي أن تمركز “قوات سوريا الديمقراطية” في المناطق التي أخلتها القوات الأمريكية يحمل دلالات واضحة بشأن مكانة هذه القوات في منظومة الأمن الإقليمي.
فرغم الجدل السياسي حول علاقتها ببعض الفصائل الكردية، فإنها تبقى الطرف الأكثر تنظيمًا وقدرة على ضبط الوضع ميدانيًا، على الأقل في المدى القريب.
لكن هذا التمركز لا يكفي بحسب الليثي لضمان الاستقرار الكامل. إذ إن قدرة قوات سوريا الديمقراطية على مواجهة التحديات الأمنية مرهونة بالدعم المستمر من التحالف الدولي، سواء لوجستيًا أو استخباراتيًا أو سياسيًا.
غياب هذا الدعم قد يضع هذه القوات أمام واقع معقد، حيث تواجه تهديدات مزدوجة من بقايا التنظيمات المتطرفة من جهة، ومن التهديدات التركية من جهة أخرى.
إشارات أمريكية لتحول استراتيجي في التعامل مع الفصائل
ويتابع الليثي بأن هناك مؤشرات أخرى على تحول في النهج الأمريكي تجاه الأزمة السورية، من أبرزها ما نُقل عن بعض المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم توماس باراك وحول إمكانية دمج بعض المقاتلين الأجانب ضمن تشكيلات الجيش السوري.
هذه التصريحات لا يمكن قراءتها إلا في سياق تغيّر أدوات الإدارة الأمريكية للصراع، والانتقال من المواجهة المباشرة إلى إدارة النفوذ والقبول بأمر واقع جديد.
يرى الليثي أن هذه المقاربة الجديدة قد تكون انعكاسًا لإدراك واشنطن محدودية نفوذها طويل الأمد في سوريا، وأنها تسعى الآن لتثبيت مكاسبها بأقل كلفة ممكنة. وهذا قد يفتح الباب أمام سياسات أكثر براغماتية، وربما تعاون غير مباشر مع أطراف محلية كانت مصنفة سابقًا كأعداء.
ردود الفعل الإقليمية: تعقيد إضافي للمشهد
ومع بروز مؤشرات التحول الأمريكي، يلفت الليثي إلى أهمية مراقبة ردود أفعال القوى الإقليمية، خاصة تركيا وإيران. فتركيا التي تنظر بعين الريبة لأي تموضع كردي قرب حدودها، قد ترى في الانسحاب الأمريكي فرصة لتوسيع عملياتها العسكرية في العمق السوري، بدعوى حماية أمنها القومي.
أما إيران، فقد تجد في هذا الانسحاب مجالًا لتعزيز حضورها ونفوذها عبر الميليشيات التابعة لها، مستفيدة من تراجع الدور الأمريكي ومحدودية التأثير الغربي بشكل عام.
هذه الديناميكيات مرشحة لتأجيج صراعات النفوذ على الأرض، وقد تؤدي إلى إعادة رسم خارطة السيطرة في الشمال والشرق السوريين خلال الفترة المقبلة.
دعوة للتيقظ الدولي والتدخل المتوازن
وأكد الليثي على ضرورة أن لا يقف المجتمع الدولي موقف المتفرج من هذه التحولات. فانسحاب القوات الأمريكية، وإن بدا موضعيًا، إلا أنه يمثل نقطة مفصلية في مسار الأزمة السورية.
ويشدد الليثي على أن أي فراغ أمني يجب أن يُملأ بسياسات رشيدة وليس بمغامرات عسكرية أو تحالفات ظرفية.
وأضاف أن منع عودة الفوضى إلى هذه المناطق يتطلب تنسيقًا حقيقيًا بين الفاعلين الدوليين، ودعمًا مستمرًا للمؤسسات المحلية، بالإضافة إلى تبني رؤية سياسية شاملة قادرة على احتواء جميع القوى المؤثرة دون إقصاء، بما يفتح الباب أمام حل مستدام.