قد جرت القوى السياسية بتحالفاتها الداخلية والخارجية لإشعال الحرب بين فريقين هما بالأساس حراسها. وحين اشتعلت الحرب بين الحراس في ابريل 2023، راح كل فريق يستدعى الخارج للتدخل لنصرة حليفه فتعود المكاسب على الجميع. وفي وقت لاحق من عام 2023، شرعت قوات الدعم السريع في غزو معظم دارفور في غرب السودان، موطن العديد من قواتها، واستولت على جزء كبير من كردفان في الجنوب. ثم واصلت هجومها بضربة خاطفة على ود مدني، وهي مدينة مهمة جنوب شرق الخرطوم، في ديسمبر من ذلك العام، مما أجبر مئات الآلاف من السكان على ترك منازلهم. واستولت قوات الدعم السريع على المزيد من الأراضي جنوب العاصمة في منتصف عام 2024، تاركة الجيش في معاقل في شرق وشمال البلاد. وفي الوقت نفسه، فشل الجيش في شن هجوم كبير من جانبه. وحقق بعض الانتصارات التي لا تتناسب مع مكانته ومقارنته بميليشيا عسكرية. لكن بحلول منتصف عام 2024، بدا الصراع عالقًا في طريق مسدود وغير مستقر.
وتداعت الأطراف الإقليمية للتدخل حينها بعدد من المبادرات من قبل مصر وجنوب السودان، ومن قبل السعودية والولايات المتحدة الامريكية فى مسار جدة، وعبر مبادرة الايجاد وغيرها من مبادرات. وكان النصر حينها متأرجحا تارة للدعم السريع، وتارة أخرى للجيش السوداني. فكانت المطالب مرتفعة. فقد كان كلا الفريقين يتفاوض حول الإغاثة وإنقاذ الامنين إلا أن المسار كان يدور حول كفية تمثيل مصالح الطرفين المتحاربين الرئيسيين، بما في ذلك البرهان وحميدتي. حيث كانت قوات الدعم السريع تصر على الحصول على ضمانات بشأن دورها المستقبلي في السودان قبل التنازل عن المناصب العسكرية الرئيسية، وخاصة في الخرطوم. ومن ناحية أخرى، كان هناك إصرار على الرجوع للاتفاقية الاطارية، وبالتالي وكأن الأمور كانت تسير في صالح الدعم السريع.
وعلى أرض الواقع بدت حرب السودان واحدة من أكثر الحروب التي شهدتها منطقة القرن الأفريقي تدميرا. فقد مات عشرات الآلاف، وواجه فيها الملايين نقصًا حادًا في الغذاء. وتم اقتلاع ملايين عديدة من ديارهم. ووفقًا لوكالات الإغاثة، لم يعد اثنان من كل ثلاثة سودانيين قادرين على الوصول إلى الرعاية الصحية، ومعظم الأطفال خارج المدرسة. وهددت الحرب الاستقرار في الدول المجاورة بما في ذلك تشاد وجنوب السودان ومصر، واللاتي رحبن بمئات الآلاف من اللاجئين، وقد جذبت المزيد من المنافسين الإقليميين بما في ذلك إريتريا، التي تدعم الجيش، وكذلك إثيوبيا، التي يُنظر إليها على أنها أكثر تعاطفًا مع قوات الدعم السريع. ومصر التي وقفت على الحياد، ولهذا بات أمر إنهاء الحرب بالغ الأهمية.
ومع عدم الوصول الى اتفاق بين اطراف الحرب تم اقتراح عدة مبادرات أخرى. وكانت مجموعة الايجاد قد أعلت من سقف مبادرتها، معلنة عن دخول قوات للفصل بين القوات المتحاربة واجبار الأطراف على وقف الحرب، مما عد انتهاكا لوحدة وسيادة السودان، وراينا مصر حينها تجمع كل دول الجوار وتقدم مبادرة تحفظ فيها وحدة السودان وسيادته وعدم التدخل في شؤونه وترك الفرصة للأطراف المتصارعة بالجلوس على مائدة التفاوض دون أي ضغوط. ومع انتصارات الجيش السوداني رأيناه يرفض في أغسطس 2024 دعوة وجهتها الولايات المتحدة لإجراء محادثات مع قوات الدعم السريع في جنيف، والتي استضافتها المملكة العربية السعودية وسويسرا. وحضر ممثلون من مصر والإمارات العربية المتحدة كمراقبين. وكان توجه مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وراء الدفع لإنهاء الحرب. وكان غياب الجيش مخيبا للآمال حينها، لكن الاجتماع خدم غرضًا مهمًا، وهو المساعدة فى تسهيل إعادة تشغيل تدفقات المساعدات عبر الحدود التشادية. حيث أعاقت العلاقات السيئة بين البرهان والولايات المتحدة المفاوضات، مما جعل من الصعب على واشنطن التوسط في اتفاق. وكان المسؤولون الأمريكيون يسعون للتحدث مع البرهان شخصيًا بسبب القيود الأمنية التي منعت اجتماع مفاجئ في بورسودان في نوفمبر 2024 . فقد رفض البرهان مقابلة المبعوثين الأمريكيين في مطار بورسودان. وبالتالي، كان على كبار المسؤولين الأمريكيين اللجوء إلى محادثات هاتفية متكلفة مع البرهان، والاعتماد على محاورين مثل مصر والمملكة العربية السعودية لمحاولة إقناعه بالعودة إلى محادثات السلام.
وفي أواخر عام 2024، بدأ مد الحرب يتحول. وبدا أن الهجمات الجديدة التي شنها الجيش وحلفاؤه كانت أفضل تنسيقًا وتجهيزًا من الجهود السابقة. وسرعان ما تراجعت قبضة قوات الدعم السريع على ود مدني. وجاءت انتكاسات أخرى في مواجهة هجوم متعدد الجبهات للجيش حول العاصمة. وفي أواخر يناير2025 فقدت قوات الدعم السريع السيطرة على مصفاة نفطية حيوية في جيلي، شمال الخرطوم. وفي نفس اليوم، كسرت القوات المتحالفة مع برهان الحصار المفروض على مقر الجيش، بما مثل هزيمة كبرى لقوات الدعم السريع، التي حاصرت القاعدة في الأيام الأولى للحرب. وبحلول ذلك الوقت، طُردت قوات الدعم السريع من شمال ووسط أم درمان، المدينة الشقيقة للخرطوم إلى الغرب من النيل، بينما استولى الجيش أيضًا على أجزاء كبيرة من بحري إلى الشمال. حيث كانت التعبئة الأوسع للجيش للفوات الجديدة، بما في ذلك الألوية الإسلامية، فضلاً عن إتقانه للطائرات بدون طيار التي تم تزويده بها على مدى العامين الماضيين، أعطته القوة النارية اللازمة لصد قوات الدعم السريع المهيمنة سابقاً. وكان الاحتلال لمساكن المواطنين وسلوك قوات الدعم السريع المسيء تجاه المدنيين، وخاصة في وادي النيل، قد أدى إلى نفور المجتمعات المحلية بشكل عميق، فذهبت إلى تشكيل مجموعات خاصة للقتال إلى جانب الجيش.
من هنا، كانت انتصارات الجيش السوداني على قوات الدعم السريع واخراجه من ولاية الجزيرة والخرطوم وحصاره في دارفور، نقطة تحول مهمة في تغيير المعادلة الإقليمية. فقد سعت مجموعة الايجاد الى التدخل وقلب معادلة النصر لصالح حلفائها من الدعم السريع. فبعد انتصار الجيش وإعلان البرهان هذا النصر وطرح مسالة تشكيل حكومة لتصريف الاعمال تدير الفترة قبل الانتقالية تعالى الصراخ فى الجانب الاخر وجن جنونمعسكر نيروبى، وراح يشكل حكومة هناك برعاية من وليم روتو رئيس كينيا ومباركته.
وبدعم من الأحزاب السياسية ممثلة في قوى الحرية والتغيير وتنسيقية القوى الديمقراطية راحت قوات الدعم السريع تعيد تجميع صفوفها لإبطاء تقدم الجيش. وأيا كانت النتيجة، فمن المرجح أن تزيد المعركة من تورط القوى الإقليمية في الحرب، وقد تحفز حتى الانقسام غير الرسمي. ومن المرجح أن يحتاج الوسطاء إلى الانتظار حتى تهدأ المعارك قبل الدعوة إلى محادثات سلام جديدة. ولكن الانتصارات الى حققها الجيش لا تجد اذنا صاغية لسماع تلك الأصوات. فعلى أرض الواقع تمكن الجيش من حسم المعركة، وتتبقى له بعض الذيول، وبالتالي لا يمكن أن يتفاوض مع قوى مهزومة لا تملك اية أوراق تفاوض عليها فضلا انه يعتبرها متمردة وخارجة على الشرعية. وهنا يأتي هذا السعار الموجود في نيروبى والدفع بإعادة الأمور لمسارها السابق وحشد الدعم المعنوي لقوات الدعم السريع والقبول بحكومة المنفى التي أعلنت على الجزء المتبقي من دارفور. حيث وقعت جماعات سياسية ومسلحة ميثاقاً مع قوات الدعم السريع يوم 22 فبراير2025 لتشكيل حكومة سلام ووحدة في الأراضي التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع. ومن جهة أخرى، وجّه تحالف السودان التأسيسي انتقادات للمبعوث الشخصي للأمم المتحدة في السودان، على خلفية تدوينه له على منصة إكس، أشار فيها إلى ترحيب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، بخريطة الطريق التي أعلنتها حكومة بورتسودان بقيادة البرهان. وقال التحالف في بيانه “إذا تأكد هذا الموقف فإنه يشكل دلالة واضحة ومقلقة على انحياز المبعوث الخاص المتزايد في الصراع السوداني”.
ووفقا لهذا يخشى البعض أن ينجرف السودان إلى تقسيم بحكم الأمر الواقع، مع ترسيخ الجانبين المتحاربين وداعميهما لمناطق نفوذهما. وقد تصاعدت هذه المخاوف في منتصف فبراير2025 مع تحرك قوات الدعم السريع نحو إنشاء حكومة متحالفة معها في حفل كبير في نيروبي، في إشارة إلى العلاقات الودية بين كينيا والمجموعة. ويخشى الدبلوماسيون أن تؤدي السلطة المتحالفة مع قوات الدعم السريع، والتي قد تشمل عبد العزيز الحلو، المتمرد القديم في جبال النوبة بجنوب كردفان، إلى ترسيخ الانقسام في البلاد. وقد يكون الانقسام الإقليمي مماثلاً للانقسام في ليبيا واليمن، حيث يتمتع كل جانب بدعم أجنبي، حتى لو كانت هناك أسباب للشك في أنه قد يثبت استقراره أو استمراره. كما غذت المخاوف من أن التقسيم يتشكل باصطفاف السياسيين المدنيين المتبقين في السودان وغيرهم من الجماعات المسلحة مع جانب أو آخر. وفى الجانب المقابل رفضت مصر في بيان معلن من قبل وزارة الخارجية المصرية الحكومة التي اعلن عنها في نيروبى. وعبرت عن رفضها أي محاولات تهدد وحدة وسيادة أراضي السودان، بما في ذلك تشكيل حكومة سودانية موازية. وقالت بأن تشكيل حكومة موازية يعقّد المشهد في السودان، ويعوق الجهود الجارية لتوحيد الرؤى بين القوى السياسية السودانية، ويفاقم الأوضاع الإنساني. ووفقاً للبيان، طالبت جمهورية مصر العربية، القوى السودانية كافة بتغليب المصلحة الوطنية العليا للبلاد، والانخراط بصورة إيجابية في إطلاق عملية سياسية شاملة، دون إقصاء أو تدخلات خارجية.
ومع ذلك، فإن أخطر صدع محتمل يكمن في تحالف البرهان في زمن الحرب مع الحركة الإسلامية السودانية، بقيادة شخصيات سابقة في نظام البشير وحزبه السياسي، حزب المؤتمر الوطني. حيث قد انقسم حزب المؤتمر الوطني بعد سقوطه من السلطة، لكنه يعيد اكتشاف قوته على الساحة السياسية. ولكن في السودان، لا يزال حزب المؤتمر الوطني يؤيد دوره في حشد العديد من الهجمات الأخيرة ضد قوات الدعم السريع. وقد أعربت شخصيات من حزب المؤتمر الوطني عن ثقتهم في أن نجم الحزب آخذ في الصعود، قائلين إنه أصبح مرة أخرى أقوى قوة سياسية في السودان. وقد تنذر طموحاته بصدام مع البرهان، الذي يسعى إلى الحفاظ على الحكم العسكري في البلاد وربما يكون له طموحا لرئاسة السودان في المرحلة المقبلة. والواقع أن البرهان وحزب المؤتمر الوطني انخرطا مؤخرا في خلاف علني بعد أن قال البرهان إنهم لن يعودوا إلى حكم البلاد، وبدا لاحقا وكأنه تراجع عن تصريحاته. وهناك أيضا شكوك حول ما إذا كانت القوة الإسلامية الأكثر تنظيما، كتيبة البراء، ستخضع لنفوذ حزب المؤتمر الوطني أو ستطرح مطالبها المنفصلة. وعلى هذا قد يؤدي الصراع الجيوسياسي إلى زيادة الضغوط على جانب الجيش. فبالإضافة إلى الصراع الأهلي، تعاني السودان من شد وجذب بين قوى إقليمية مختلفة. وتحظى حكومة البرهان بدعم مصر وتركيا وقطر وإيران، كما تحظى بحماية المملكة العربية السعودية. وكانت بعض هذه الدول، وهي تركيا وقطر وإيران، تربطها علاقات وثيقة بنظام البشير والإسلاميين في السودان، في حين تشعر دول أخرى، مثل مصر والمملكة العربية السعودية، بالقلق من عودة ظهور هذه القوى، وإن بدرجات متفاوتة. كما كانت إسرائيل قلقة منذ فترة طويلة بشأن النفوذ الإسلامي والإيراني في السودان، وخاصة في الشرق، الذي كان في السابق طريقًا لتهريب الأسلحة ويقع على البحر الأحمر ذي الأهمية الاستراتيجية. كما كانت الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، معادية تقليديًا للحركة الإسلامية في السودان. وستسعى كل هذه القوى إلى صياغة نتيجة تترك لها نفوذًا على السودان بعد الحرب.
وفى ضوء ما سبق تزال محاولات إنهاء الحرب في السودان من خلال الوساطة ملحة. ولكن من المحتمل أن تتراجع هذه المحاولات إلى الخلف طالما يعتقد الجيش وحلفاؤه أنهم قد انتصروا، وبالتالي يسعى إلى إنهاء الحرب من موقع قوة. أو بدلاً من ذلك، إذا تعثرت حملته، فقد يقرر الجانبان أنه من مصلحتهما إنهاء الجمود المدمر. وفي كلتا الحالتين، سيكون من الصعب للغاية إدارة هذه المحادثات، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تحالف البرهان غير المتحكم فيه ومعارضة بعض أعضائه لمحادثات السلام، بما في ذلك الحركة الإسلامية. ومع ذلك، يجب على القوى الخارجية الاستعداد لفرصة جلب الجانبين إلى محادثات سلام ذات مغزى. حيث ينبغي للجهود الرامية إلى زيادة المساعدات الإنسانية لتجنب الموت على نطاق واسع بسبب المجاعة أن تتسارع. وحتى مع استمرار الاشتباكات على الأرض، ينبغي للمناقشات الإقليمية حول نهاية الحرب أن تتكثف. وينبغي للإدارة الأميركية الجديدة، التي لم تظهر بعد أي اهتمام بحرب السودان، أن تشجع الرياض والقاهرة وأبو ظبي على هذا المسار. وفي الوقت نفسه، ينبغي للجنة الاتحاد الأفريقي المعنية بالسودان، والتي تضم خمسة رؤساء دول أفريقية ويرأسها الرئيس الأوغندي يويري موسيفيني، أن تحاول إشراك الجانبين في محادثات لإنهاء الحرب. وعلى الرغم من التحولات الأخيرة في ساحة المعركة، يبدو من غير المرجح أن يتمكن أي من الطرفين من تحقيق نصر عسكري كامل يسمح له بحكم السودان بأكمله. صحيح أن الجيش أصبح أكثر جرأة بفضل مكاسبه الأخيرة، لكن الصحيح أيضا أن النهاية ليست في الأفق، وينبغي لطرفي الصراع وشركائهما الخارجيين أن ينتبهوا عن كثب إلى مخاطر حرب أهلية طويلة الأمد يمكن أن تؤدي إلى تفتيت البلاد وتهجير شعبها وتركها غير قابلة للحكم. وربما بدلاً من ذلك يسعوا إلى وضع نهاية كاملة لكابوس السودان ولاتزال فيهم قوة. أو يعجل الجيش السوداني ويحسم المسألة داخل السودان بما فيها دارفور، ويدير مرحلة انتقالية بدستور انتقالي لمدة ثلاث او اربع سنوات، توطئة لاختيار رئيس جديدة وحكومة وبرلمان يدير الفترة بدد الانتقالية.
حفظ الله السودان شقيق مصر وألهم نخبته البصيرة للحفاظ على ما تبقى من وطنهم
د.أحمد عبد الدايم، أستاذ التاريخ السياسي والعلاقات الدولية بجامعة القاهرة