الجيش الإسرائيلي بين الاحتجاجات والانقسامات: أزمة غير مسبوقة في ظل حرب غزة

كتبت: هدير البحيري

بين الانتحارات ورفض الجنود العودة للقتال، يواجه الجيش الإسرائيلي أسوأ أزماته منذ عقود في غزة. تعصف الحوادث النفسية والاجتماعية بالجنود، وتكشف تآكل الثقة بالقيادة السياسية والعسكرية هشاشة الاستراتيجية الإسرائيلية، ما يضع الحكومة تحت ضغط متزايد وسط غضب شعبي واسع.
كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن ضغوط يمارسها وزراء وأعضاء مجلس الأمن القومي على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
وأعرب رئيس الأركان الإسرائيلي عن مخاوفه من أن احتلال مدينة غزة قد يفرض حكمًا عسكريًا، ويزيد احتمالات تحميل إسرائيل مسؤوليات قانونية.
كما أبدى رئيس جهاز الموساد ديفيد برنيع ووزير الخارجية جدعون ساعر ترددهما بشأن الهجوم على غزة، مشيرين إلى الكلفة الدبلوماسية المحتملة، مع التأكيد على ضرورة إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأسرى الإسرائيليين بشكل عاجل.

رفض الجنود وارتفاع السخط الشعبي

يواجه الجيش الإسرائيلي صعوبة في تعبئة جنود الاحتياط، إذ يعاني كثير منهم من إرهاق نفسي شديد نتيجة القتال، حتى أن بعض الجنود وصلوا إلى نقطة الانهيار بعد التخلي عن وظائفهم ودراستهم وعائلاتهم.
لجأ القادة إلى أساليب غير معتادة لاستدعاء الجنود، مثل رسائل واتساب لطلاب جامعيين للانضمام كمسعفين أو قناصة.

تشير استطلاعات الرأي إلى أن نحو 80% من الإسرائيليين يريدون من نتنياهو التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب وإعادة الأسرى، فيما يزداد انتشار فكرة رفض العودة للخدمة لأسباب أخلاقية بعد ممارسات غير قانونية ضد الفلسطينيين.
وقالت الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي، في تل أبيب، إديت شفران جيتلمان إن “كلما زادت علامات الاستفهام حول مبررات القتال، زاد تردد الناس في الحضور، ونحن قريبون جدًا من الخط الأحمر”.

التعبئة العسكرية والخلافات الداخلية

أفادت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن نحو 40 ألف جندي احتياط سيلتحقون بالخدمة استعدادًا لهجوم على مدينة غزة، في حين يواصل الجيش الاستعدادات اللوجستية لاستيعاب الجنود.
وقد وافق مجلس الوزراء الأمني برئاسة نتنياهو على خطة لتوسيع الحملة للسيطرة على مدينة غزة، التي تخضع حاليًا لسيطرة إسرائيل على نحو 75% منها.
غير أن التوتر استمر بين نتنياهو ورئيس أركان الجيش إيال زامير، الذي حذر من أن الحملة ستعرض حياة الرهائن للخطر وتزيد الضغط على الجيش المنهك.

إسرائيل بين الضغوط الدولية وانتقادات الإعلام

تعاني إسرائيل من تراجع الدعم الدولي، خصوصًا في الولايات المتحدة، حيث يشير خبراء إلى ضعف الدعم بين جيل الشباب الأمريكي من الديمقراطيين والجمهوريين. وصف الإعلام الإسرائيلي إدارة نتنياهو للأزمة بالفشل، مؤكدًا صعوبة الحفاظ على الدعم الدولي وسط استمرار العمليات العسكرية في غزة.

التدهور النفسي والاجتماعي

تشهد إسرائيل أزمة نفسية واجتماعية داخل الجيش، مع حالات انتحار بين الجنود نتيجة الضغوط النفسية الهائلة. فقد أنهى 18 جنديًا حياتهم منذ بداية العام، فيما يعالج أكثر من 10 آلاف جندي آثار اضطرابات ما بعد الصدمة، على الرغم من الاعتراف الرسمي بـ3 آلاف و769 حالة فقط.
أعلنت حركة “جنود من أجل المخطوفين” رفضها القاطع للعودة إلى القتال، معتبرة أن العملية المقبلة “غير قانونية” وتهدد الجنود والأسرى والمدنيين.
في الوقت نفسه، انتقد جنود ممن شاركوا في القتال استمرار الحرب، مؤكدين أن حياتهم وحياة عائلاتهم انهارت، وأن الأطفال والنساء بحاجة لعلاج نفسي.
وقال أحد الجنود الإسرائيليين: “أنا جثة تمشي على الأرض، والجنود ينتحرون كل يوم”.
ويأتي ذلك في ظل استمرار الحرب التي أودت بحياة أكثر من 63 ألف فلسطيني، وأدت إلى إصابة 160 ألفًا آخرين، وتهجير واسع النطاق ومجاعة خانقة.

النقص اللوجستي والمعدات العسكرية

تعاني إسرائيل من نقص حاد في المعدات، خصوصًا الجرافات والدبابات الثقيلة، بالتوازي مع تآكل القوى البشرية والوسائل القتالية.
وأكد المراسل العسكري لصحيفة هآرتس، يانيف كوبوفيتش، أن الجيش يمتلك الآن نحو نصف عدد الجرافات التي كانت بحوزته عند اندلاع الحرب، بعدما دُمرت أو تعطلت خلال العمليات البرية في قطاع غزة.

فقدان الثقة والانعكاسات الداخلية

أكدت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن استمرار الحرب في غزة أدى إلى تآكل الثقة والأمل داخل المجتمع الإسرائيلي، وتأثر القيم الدينية والأخلاقية، التي تحولت إلى “طقوس عبثية يضحى فيها بالأجيال”، ما أثر سلبًا على الروح المجتمعية والمسؤولية الوطنية.
وأضافت الصحيفة أن توجيه الميزانيات نحو الحرب على حساب الخدمات العامة أدى إلى تضخم اقتصادي وركود استثماري، وتآكل التعليم والانتماء الوطني.
ولفتت الصحيفة إلى أن هذه العوامل جميعها تزيد الضغوط على الحكومة والقيادة العسكرية في الوقت نفسه، وتضعف القدرة على إدارة العملية العسكرية بفعالية، ما ينعكس بدوره على استجابة جنود الاحتياط واستمرار حالة الإرهاق المؤسسي والغضب الشعبي.

الفشل السياسي والاستراتيجي

ويرى الكاتب الإسرائيلي نير كيبنيس أن نتنياهو لم يتحمل مسؤولية الإخفاقات في الحرب، بل عمد إلى تحميل القادة العسكريين والجنود اللوم، فيما فشلت محاولات السيطرة على غزة وتأمين تحرير الأسرى، ما يعكس هشاشة الاستراتيجية العسكرية.

باحث في الشؤون الإسرائيلية: رفض الجنود العودة للخدمة يعكس أزمة أعمق

قال المترجم والباحث المتخصص في الشؤون الإسرائيلية، عمرو زكريا خليل، في حوار خاص لـ”نافذة الشرق” إنه لا يتوقع أن يترك رفض مئات من جنود الاحتياط العودة للتجنيد أثرًا مباشرًا على تنفيذ العملية البرية في غزة.
وأوضح خليل أن إسرائيل استدعت أكثر من 150 ألف جندي احتياط، وهو ما يجعل امتناع بعض المئات غير ذي تأثير عملي على الأرض. لكنه شدد على أن هذه الظاهرة تحمل دلالات أعمق بكثير من بعدها العددي، إذ تعكس تصاعد حالة الرفض المجتمعي داخل إسرائيل لاستمرار الحرب، وتؤكد وجود أصوات متزايدة تطالب بالتوصل إلى اتفاق شامل يضمن استعادة الأسرى ووقف العمليات العسكرية.
وأشار خليل إلى أن دوافع رفض جنود الاحتياط العودة إلى الخدمة تحمل أبعادًا مزدوجة، نفسية وسياسية في آن واحد.
فمن الناحية النفسية، يوضح خليل أن هؤلاء الجنود واجهوا معارك قاسية وغير متوقعة في غزة، وما رافقها من دمار واسع وخسائر بشرية كبيرة، الأمر الذي ترك آثارًا مباشرة على استقرارهم النفسي.
وزاد من حدة الأزمة أن بعضهم اضطر إلى الخدمة لفترات تجاوزت 300 يوم متواصلة، وهو ما انعكس سلبًا على حياتهم الاقتصادية والأسرية، وجعل الكثيرين غير قادرين على الاستمرار في تحمل أعباء الحرب.

أما من الناحية السياسية، فيؤكد خليل أن شريحة متزايدة من جنود الاحتياط والمجتمع الإسرائيلي باتت ترى أن الحرب تفتقر إلى أهداف واضحة، حيث تواصل القيادة السياسية رفع شعارات القضاء على حركة “حماس” واستعادة الأسرى دون أن يتحقق أي تقدم ملموس على الأرض.
هذا الغموض، بحسب خليل، عمق شعورًا متزايدًا بأن استمرار الحرب لم يعد يخدم المصالح الوطنية بقدر ما يخدم أهدافًا شخصية لرئيس الوزراء نتنياهو، المتهم بالسعي لإطالة أمد القتال بغرض تثبيت موقعه السياسي وتفادي الملاحقات القضائية التي تلاحقه منذ سنوات.
وقال الباحث في الشؤون الإسرائيلية إن امتناع بعض جنود الاحتياط عن العودة للخدمة لا يؤثر عمليًا على الجيش أو معنويات الجنود في الصفوف الأمامية، مؤكدًا أن الجيش الإسرائيلي يقوم على احترافية راسخة والتزام صارم بالأوامر العسكرية، ما يمنع أي خلل ميداني أو انهيار في الانضباط.
ولفت خليل إلى أن هذا النمط من الاحتراف برز بوضوح في وقت سابق، عندما امتنع مئات الطيارين الإسرائيليين عن أداء الخدمة الاحتياطية على خلفية أزمة “الإصلاحات القضائية”، قبل أن يعودوا سريعًا إلى صفوفهم مع اندلاع حرب غزة والتصعيد مع إيران.
وهو ما يبرهن، بحسب خليل، على أن اللحظات الحرجة عادة ما تدفع الجنود إلى تجاوز الخلافات الداخلية والعودة إلى تنفيذ المهام الموكلة إليهم.
وحول ما إذا كانت أزمة رفض بعض جنود الاحتياط العودة للخدمة قد تدفع القيادة الإسرائيلية إلى إعادة تقييم خطط العملية البرية أو تعديل توقيتها، قال خليل إن هذا الاحتمال غير وارد، مؤكدًا أن الخطط العملياتية للجيش الإسرائيلي جرى اعتمادها بالفعل، وبدأ تنفيذها فعليًا من خلال القصف المكثف الذي استهدف عددًا من المباني والمنشآت في مدينة غزة خلال الأيام الأخيرة، ما يعكس أن المؤسسة العسكرية ماضية في خطتها دون تغيير في المسار أو التوقيت.
وأوضح خليل أن امتناع بعض مئات من جنود الاحتياط عن العودة للخدمة لن يؤثر على هذه الخطط، نظرًا لاعتماد الجيش الإسرائيلي على قوة احتياطية ضخمة جرى استدعاؤها منذ بداية الحرب.
ويقول الباحث في الشؤون الإسرائيلية إنه لا يمكن وصف امتناع مئات من جنود الاحتياط عن الخدمة بأنه “أزمة”، لافتًا إلى أن القضية الأعمق في إسرائيل مرتبطة برفض المتدينين الحريديم أداء الخدمة العسكرية، وهي المشكلة التي إن تم التوصل إلى حل لها، قد تُخفف بشكل كبير الضغط على قوات الاحتياط.
وأشار خليل إلى أن التطورات الميدانية في غزة توضح أن إسرائيل تواجه تحديات أكبر بكثير من قضية رفض بعض الجنود، من بينها رفض سكان غزة مغادرة المدينة رغم الضغوط الإسرائيلية، وهو ما يعقّد أي تقدم بري.
كما لفت إلى أن ملف الأسرى الإسرائيليين داخل غزة يشكل بدوره مصدر قلق بالغ للقيادة الإسرائيلية، خاصة بعد ظهور تسجيلات مصورة لعدد منهم يطالبون بوقف القتال خشية تعرضهم للقتل خلال العمليات العسكرية.
وأشار خليل إلى أن الإعلان عن بدء الهجوم البري والقصف المكثف الذي شهدته مدينة غزة قد يُستخدم أيضًا كورقة ضغط على حركة حماس لدفعها إلى تقديم تنازلات تتعلق بملف الأسرى، معتبرًا أن هذا الملف يفرض نفسه بقوة على الأجندة السياسية والعسكرية في إسرائيل، أكثر من مسألة رفض مئات الجنود العودة للخدمة.