عبد الرحمن السيد
تُعد منطقة البحيرات العظمى إحدى أكثر المناطق الإفريقية حساسية من الناحية الأمنية والسياسية، نظرًا لتشابك النزاعات الداخلية، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية فيها، خصوصًا بين دول مثل الكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندي وأوغندا. وفي ظل هذه الأوضاع، تبرز مصر كفاعل إقليمي محوري، يعمل على تهدئة التوترات وبناء جسور الاستقرار في القارة، انطلاقًا من رؤيتها الثابتة بأهمية استقرار إفريقيا كمدخل رئيسي لتحقيق التنمية والأمن المشترك.
رؤية مصرية متوازنة.. الحوار أولًا
في هذا السياق، يؤكد النائب شريف الجبلي، رئيس لجنة الشئون الإفريقية بمجلس النواب، أن “الخلافات الموجودة حاليًا بين عدد من الدول في منطقة البحيرات العظمى مثل الكونغو ورواندا، لا تزال محدودة وليست من النوع الكبير، لكنها بحاجة إلى تدخل دبلوماسي حكيم”، مشددًا على أن مصر تتعامل مع كل الدول الإفريقية دون استثناء، عبر آليات الحوار والتفاهم، ومن خلال الأطر الشرعية مثل الاتحاد الإفريقي ولجنة السلم والأمن.
وأشار الجبلي، في تصريحات خاصة لـ نافذة الشرق، إلى أن التحركات المصرية لا تنبع من مصالح ضيقة، وإنما من قناعة استراتيجية بأن استقرار القارة الإفريقية ينعكس مباشرة على الأمن القومي المصري، خاصة في مناطق الشرق الإفريقي ودول حوض النيل، التي تمثل امتدادًا طبيعيًا لمصر، سياسيًا وجغرافيًا ومائيًا.
آليات مصرية متعددة.. بين القاهرة وأديس أبابا والاتحاد الإفريقي
وذكر النائب أنه من الناحية العملية، تعتمد مصر في مقاربتها لأزمات إفريقيا على عدد من المحاوروفي مقدمتها الدبلوماسية الهادئة، إذ تتحرك مصر عبر القنوات الرسمية والاتصالات المباشرة مع الأطراف المعنية، بعيدًا عن الضجيج الإعلامي أو التدخلات الفجة. كم تعتمد مصر على الاتحاد الإفريقي باعتباره المظلة الأهم لحل النزاعات داخل القارة، تحرص مصر على دعم مؤسساته، وكانت رئاستها للاتحاد في 2019 فرصة لتعزيز أدوات السلم والأمن داخله. وكذلك لجنة السلم والأمن الإفريقية: وهي أحد الأذرع الفعالة للاتحاد في منع النزاعات وفضها، وتلعب مصر دورًا في صياغة مخرجاتها وتفعيل قراراتها. وأيضا القوى الناعمة من خلال دعم التعليم والتدريب والتعاون الفني مع الدول الإفريقية، بما يسهم في بناء قدرات محلية تسهم في تحقيق الاستقرار الداخلي.
تهدئة في البحيرات.. ومواجهة النفوذ الخارجي
تُعد منطقة البحيرات العظمى من أبرز بؤر النزاع في إفريقيا، حيث تعاني من صراعات عرقية وامتدادات إقليمية، خاصة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، إذ تتهم كينشاسا كيجالي بدعم مليشيات الـ”إم23″، وهو ما تنفيه الأخيرة. ورغم محاولات التسوية التي رعتها كل من أنجولا وكينيا، لا تزال الأزمة تتأرجح بين التهدئة والتصعيد.
وهنا، ترى مصر أن الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر آليات إفريقية خالصة، وبعيدًا عن التدخلات الخارجية. وفي هذا السياق، أوضح النائب شريف الجبلي أن “إسرائيل تتدخل في الشأن الإفريقي منذ عقود، وليس هذا أمرًا جديدًا، بل إن وجودها ظاهر في الغرب والشرق وكل أنحاء القارة”، في إشارة إلى محاولات تل أبيب التأثير على موازين القوى في إفريقيا، خصوصًا في دول حوض النيل.
السيسي يعيد مصر للقارة.. عودة بثقل وتأثير
منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي الحكم، شهدت العلاقات المصرية الإفريقية انطلاقة جديدة وغير مسبوقة، سواء على مستوى القمم الثنائية أو الإقليمية، أو من خلال الزيارات الرئاسية التي شملت غالبية دول القارة، والمشاركة في صياغة سياسات إفريقية موحدة في مجالات مثل مكافحة الإرهاب والتغير المناخي والبنية التحتية.
ويؤكد النائب شريف الجبلي أن “الرئيس السيسي أعاد مصر بقوة إلى الساحة الإفريقية”، مشيرًا إلى أن القاهرة باتت اليوم فاعلًا رئيسيًا في ملفات حيوية داخل القارة، خصوصًا في مناطق التوتر، ومشروعات التنمية الإقليمية الكبرى.
الأمن المائي في قلب المعادلة
لا يمكن الحديث عن الدور المصري في شرق إفريقيا دون التطرق إلى قضية الأمن المائي، حيث ترى مصر أن استقرار منطقة البحيرات العظمى له صلة مباشرة بأمن نهر النيل، سواء من حيث تدفق المياه، أو استقرار الدول المطلة على منابعه، أو قدرة حكوماتها على إدارة الموارد المائية بعيدًا عن النزاعات.
وفي هذا الإطار، تسعى مصر إلى تعزيز التعاون الثنائي مع دول مثل أوغندا، وبوروندي، وتنزانيا، والكونغو الديمقراطية، من خلال مشروعات مشتركة في مجالات الطاقة والمياه والبنية الأساسية، بهدف ترسيخ الأمن والاستقرار والتنمية، باعتبارها ضمانة أساسية لحماية حقوق مصر المائية وتخفيف حدة التوترات الإقليمية.
التحديات مستمرة.. لكن الأمل قائم
ورغم هذا الدور المحوري، لا تزال تحديات استقرار إفريقيا كبيرة ومعقدة، على رأسها:
تنامي النفوذ الأجنبي في بعض الدول الضعيفة سياسيًا أو اقتصاديًا.
تصاعد الحركات المسلحة والعصابات العابرة للحدود.
هشاشة المؤسسات الرسمية في بعض المناطق.
الفجوة التنموية بين دول الشمال الإفريقي والدول الواقعة جنوب الصحراء.
مصر بين التوازن الإقليمي وتحجيم الأجندات الخارجية
في ظل الصراع على النفوذ في القارة الإفريقية بين قوى إقليمية ودولية، تلعب مصر دورًا متوازنًا يسعى إلى تحجيم الأجندات الخارجية التي تسعى لفرض واقع جديد بالقوة أو شراء الولاءات. فبينما تتزايد التحركات الإسرائيلية والتركية وحتى الإيرانية في عدد من الدول الإفريقية، تتبنى القاهرة سياسة تحترم خصوصية الشعوب وتدعم التمكين المحلي والمؤسسات الوطنية، دون فرض وصاية. هذا التوجه جعل لمصر مصداقية واضحة بين عواصم القارة، بل إن العديد من الدول أصبحت تطلب الوساطة المصرية في النزاعات، لما تمتلكه القاهرة من علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف، وخبرة دبلوماسية طويلة في إدارة التناقضات الإقليمية. ومن هنا، فإن الدور المصري لا يقتصر على دعم الاستقرار فقط، بل يتعداه إلى بناء نموذج للتعاون الإفريقي الخالص في مواجهة صراعات المصالح الدولية.
لكن في المقابل، فإن وجود رؤية مصرية متكاملة تعتمد على أدوات القوة الناعمة والدبلوماسية والاحترام المتبادل، يمثل ركيزة أساسية يمكن البناء عليها، خاصة إذا ما تم دعم هذا الدور من خلال شراكات إفريقية داخلية وشبكات تنسيق مع الدول المؤثرة في الإقليم.
تُجسّد مصر اليوم نموذجًا للدولة التي تؤمن بأن استقرار إفريقيا لا يُبنى بالقوة بل بالحوار، ولا يتحقق بالتدخل بل بالتعاون. ومن خلال دورها المتنامي في منطقة البحيرات العظمى، تؤكد القاهرة أنها ماضية في دعم أمن القارة، ليس فقط حمايةً لمصالحها، بل انطلاقًا من إيمانها العميق بأن مستقبلها مرتبط بمصير القارة التي تنتمي إليها قلبًا وقالبًا.