كتبت: هدير البحيري
في تحول وُصف بالتاريخي، أعلن حزب العمال الكردستاني مطلع يونيو 2025 عن حلّ نفسه رسميًا وإنهاء الكفاح المسلح ضد تركيا، بعد نحو خمسة عقود من الصراع المسلح الذي أودى بحياة عشرات الآلاف
جاء هذا الإعلان خلال المؤتمر الثاني عشر للحزب، استجابة لدعوة زعيمه المعتقل عبد الله أوجلان، الذي دعا في وقت سابق إلى وقف القتال.
وكان الحزب قد تأسس عام 1978 بهدف إقامة دولة كردية مستقلة، قبل أن يتحوّل لاحقًا إلى المطالبة بالحكم الذاتي للأكراد داخل الدولة التركية.
ورغم هذا التحوّل، واصلت أنقرة تصنيف الحزب كتنظيم إرهابي، مؤكدة أنه لا يزال يمثل تهديدًا لأمنها القومي، خاصة من خلال وجوده في شمال العراق.
ومن هذا المنطلق، واصلت تركيا شنّ عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية، مستهدفة مواقع تزعم أنها “إرهابية”، ما أثار جدلًا واسعًا حول انتهاك السيادة العراقية، وتحديات المشهد الأمني في شمال البلاد.
وفي هذا الإطار، تواصلت “نافذة الشرق” مع خبراء وباحثين متخصصين في الشؤون التركية لرصد أبعاد هذا التصعيد وتفسير خلفياته.
قال الباحث والمتخصص في الشؤون التركية، عبدالمولى علي، في تصريح خاص، إن إعلان حل حزب “العمال الكردستاني” نفسه، لم يُقنع أنقرة بأنه تم تفكيك البنية المسلحة بالكامل؛ لذا تركيا تتعامل مع هذا الإعلان بحذر وتعتبره خطوة إعلامية أو سياسية لا ترتقي إلى مستوى الإجراء الأمني الملموس.
وهذا يظهر في تأكيد وزارة الدفاع التركية استمرار العمليات العسكرية حتى تطهير كامل المنطقة وتسليم السلاح. كما أن أنقرة ترى أن “جناح قنديل” تحديدًا، بقيادة جميل بايك، لم يلتزم فعليًا بقرار الحل، ولا زال يحتفظ بمقاتلين ومنشآت عسكرية في المناطق الجبلية، ولهذا تواصل عملياتها.
وأضاف أنه لا يعتقد أنها ستتغير على المدى القصير؛ إذ إن تركيا تعتمد على استراتيجية “أمن وقائي” قائمة على مبدأ “الضربات الاستباقية”. ما لم يتوافق إعلان “العمال الكردستاني” حل نفسه مع إجراءات ميدانية واضحة، مثل: الانسحاب من المناطق التي يسيطر عليها أو تسليم السلاح، فلن تغيّر أنقرة من نهجها؛ فالأخيرة تحتاج إلى “أدلة عملية” وليس مجرد بيانات سياسية.
ويشير عبدالمولى إلى أن ما بعد الإعلان لم يحمل تهدئة، بل على العكس، شهد تصعيدًا لافتًا؛ حيث نفذت تركيا أكثر من 25 غارة جوية استهدفت مناطق في دهوك ونينوى، وزادت من استخدام الطائرات المسيّرة. وبرأيه، تستخدم أنقرة هذا الإعلان كأداة ضغط، مستغلة اللحظة لتكثيف عملياتها وفرض حل أمني ميداني قبل الدخول في أي مسار تفاوضي محتمل.
ويرى أن هناك أربعة أسباب رئيسية تدفع أنقرة للاستمرار في القصف رُغم حلّ الحزب، وهي انعدام الثقة بإعلان الحل واعتباره مجرد تكتيك مؤقت، واستمرار الوجود الفعلي للمسلحين في أكثر من 20 منطقة شمال العراق، وقوع هجمات على القوات التركية بعد إعلان الحل، إضافةً إلى وجود تنسيق أمني مع بغداد يتيح لأنقرة تنفيذ ضربات بذريعة “مكافحة الإرهاب”.
وأوضح أن هناك تذمّر شعبي كبير، خصوصًا في القرى الكردية المتضررة من الغارات والقصف اليومي، مضيفًا أن السكان في المنطقة يعيشون بين نارَين: من جهة يتضررون من وجود حزب العمال بينهم، ومن جهة أخرى يدفعون ثمن الرد التركي العنيف.
أما على المستوى العراقي العام، فهناك مطالب متكررة من البرلمان والحكومة بوقف “الانتهاكات” التركية، لكن الإجراءات الفعلية ما زالت محدودة. كما أن هناك توازنات إقليمية تجعل من الصعب اتخاذ موقف حاد تجاه أنقرة.
وأكد عبدالمولى أن هذا الصراع يمثل أحد العوامل المزعزعة للاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، وتأثيره يتعدى الحدود العراقية–التركية؛ ليطال مجمل التوازنات الأمنية والسياسية في المنطقة. إضافةً إلى أن استمرار القصف والتوغلات التركية يُضعف من سيادة العراق ويُرسّخ مبدأ “الحدود المتحركة”، حيث تتصرف أنقرة على أنها تملك حق التدخل العسكري خارج أراضيها متى شاءت. وأخيرًا، من الصعب الحديث عن مفاوضات شاملة أو مسارات سياسية واقعية بين الأطراف في ظل استمرار العمليات العسكرية، وهذا يمدد عمر الصراع بدل إنهائه.
وقال الدكتور طارق البرديسي، الخبير بالشؤون الدولية، إن العمليات العسكرية التي تنفذها تركيا في شمال العراق تأتي في إطار سعيها المستمر لحماية أمنها القومي، في ظل وجود بؤر توتر ونشاطات تصفها أنقرة بـ”الإرهابية” في تلك المنطقة. ويضيف أن تركيا ترى في التحرك المباشر، داخل أراضيها أو خارجها، حقًا مشروعًا عندما تعتبر أن أمنها القومي مهدد.
وأضاف أن إعلان حزب العمال الكردستاني عن حلّ نفسه قوبل بترحيب رسمي من تركيا ومن عدد من الأطراف الإقليمية والدولية، إلا أن هذا لا يعني – من وجهة نظر تركيا – زوال التهديدات بشكل كامل. فأنقرة تميز بين البُعد السياسي لهذا الإعلان، وبين المعطيات الأمنية التي تستند إليها في اتخاذ قراراتها العسكرية.
ويرى البرديسي أن الضربات الأخيرة التي نفذتها القوات التركية جاءت بناءً على معلومات استخباراتية ورصد لما تعتبره أنقرة “نشاطًا مقلقًا” في شمال العراق، مؤكدًا أن تركيا ما كانت لتنفّذ هذه العمليات لولا اعتقادها بوجود تهديدات حقيقية على أرض الواقع.
وفي سياق متصل، أشار البرديسي إلى أن هذه العمليات العسكرية تثير استياءً واسعًا داخل إقليم كردستان العراق، بالنظر إلى ما تخلفه من أضرار وتداعيات على الوضع الداخلي. ويحذر من أن استمرار هذه الهجمات لا يؤثر فقط على الاستقرار الأمني، بل قد يسهم في تصعيد التوترات داخل الإقليم، بما قد يفتح الباب أمام حالة من عدم الاستقرار تتجاوز حدود شمال العراق.
ويمتد تأثير التصعيد التركي في شمال العراق إلى ما هو أبعد من الحدود الجغرافية، ليحمل في طياته أبعادًا جيوسياسية متعددة تعكس حجم التداخلات الإقليمية والدولية المرتبطة بهذا الملف. وتأتي هذه العمليات ضمن ما تصفه أنقرة بسياسة “الضربات الاستباقية”، الرامية إلى تأمين حدودها الجنوبية وردع أي تهديد محتمل، خصوصًا في ظل هشاشة الوضع الأمني في المناطق الحدودية العراقية.
وعلى الجانب العراقي، يُعيد القصف التركي المتكرر تسليط الضوء على أزمة السيادة التي تعاني منها بغداد، خاصة في المناطق الخارجة عن السيطرة المباشرة للحكومة المركزية. وتجد العراق نفسها أمام معضلة متكررة في الموازنة بين الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا، وبين حماية أراضيها من الانتهاكات العسكرية، والتي تثير غضبًا شعبيًا وسياسيًا داخل البلاد.
أما في إقليم كردستان، فتعمق هذه العمليات الانقسامات بين الفصائل الكردية المختلفة، وتُضعف فرص التوصل إلى توافق داخلي بشأن الملفات الأمنية والسياسية. وفي ظل الحاجة الماسة إلى الاستقرار، يأتي التصعيد العسكري ليهدد أي تقارب محتمل بين أنقرة والقوى الكردية، ويؤجل فرص الحلول السياسية المستدامة على المدى البعيد.
إقليميًا، تتقاطع التحركات التركية مع مصالح قوى أخرى، وعلى رأسها إيران، التي تراقب بقلق تزايد النفوذ العسكري التركي على مقربة من مناطق نفوذها داخل العراق. ويُضاف إلى ذلك أن هذا التوتر يحدث في لحظة إقليمية حرجة، تشهد سباقًا على النفوذ وبناء ممرات اقتصادية واستراتيجية، تسعى من خلالها أنقرة ودول الخليج لتعزيز موقعها الإقليمي.
دوليًا، يواجه المجتمع الدولي اتهامات بـ”الصمت” أو الاكتفاء بردود فعل رمزية، رغم المخاوف من الانعكاسات الإنسانية والأمنية للعمليات التركية، لا سيما في المناطق المدنية. وفي حين تُبقي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على علاقات استراتيجية مع أنقرة، إلا أن منظمات حقوقية بدأت تطالب بإجراء تحقيقات دولية حول طبيعة هذه الضربات وتبعاتها.