بعد 22 عامًا من الانقطاع.. “طريق التنمية” يعيد ربط العراق بالكويت عبر تركيا

كتبت: هدير البحيري

انطلقت أولى الشاحنات من تركيا متجهةً نحو الكويت عبر الأراضي العراقية، معلنةً استئناف الربط البري المباشر بين العراق والكويت لأول مرة بعد انقطاع دام 22 عامًا منذ عام 2003، في حدث تاريخي يمثل نقطة تحول بارزة في التجارة الإقليمية.
قدمت هذه الخطوة، التي تمثل المرحلة الأولى من مشروع “طريق التنمية” الطموح، فرصة جديدة لإعادة ترسيخ موقع العراق كلاعب رئيسي على خريطة النقل والتجارة العالمية، مما أسهم في تعزيز المشهد اللوجستي في منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير.
وجاءت هذه الرحلة الفريدة، التي عبرت ثلاث دول في مشهد غير مسبوق منذ عقود، بالتزامن مع انطلاق فعاليات منتدى “ممرات النقل العالمية” في إسطنبول، والذي جمع أكثر من 70 دولة لاستعراض فرص التكامل اللوجستي وتبني التحول الرقمي في قطاع النقل العابرة للقارات.

بعد أكثر من عقدين من الانقطاع، شهدت الطرق البرية بين العراق والكويت تحولًا تاريخيًا، إذ أُعيد فتحها أمام حركة الشاحنات لأول مرة منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والذي أعقبه شلل أمني وسياسي طويل الأمد.
ومع بدء تطبيق نظام جديد لتنظيم عبور الشاحنات في بغداد، انطلقت ثلاث شاحنات تركية نحو الكويت عبر الأراضي العراقية، في مشهد يعكس كسر العزلة البرية واستعادة العراق لدوره كممر لوجستي بين الشرق والجنوب الخليجي.
سجل المسار ذاته إنجازًا لافتًا بوصول شاحنة ألمانية إلى الأراضي الأردنية، في أول عبور بري مباشر من أوروبا إلى المملكة منذ عام 2011، حين أدت تداعيات الحرب السورية إلى إغلاق الطرق التقليدية التي كانت تربط المشرق العربي بالقارة الأوروبية.

**مشروع عراقي طموح بدعم تركي وإقليمي

في كلمته خلال المنتدى، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده تسعى لتحويل الإمكانات الجيوسياسية إلى ميزة اقتصادية من خلال مشروع “طريق التنمية”، مشيرًا إلى أن هذا المشروع سيسهم في إنتاج اقتصادي تتجاوز قيمته 50 مليار دولار خلال 10 سنوات، إلى جانب توفير نحو 63 ألف فرصة عمل سنويًا.
واعتبر أردوغان المنتدى منصة عالمية لتأكيد دور تركيا القيادي في مجال النقل، متوقعًا أن تؤدي ممرات النقل الآمنة إلى إحداث تحولات اقتصادية وثقافية في البلدان المشاركة، ولا سيما في ظل اضطرابات الملاحة البحرية في مضيق هرمز.
وأشار إلى أن حكومته استثمرت أكثر من 300 مليار دولار في تطوير البنية التحتية للنقل والاتصالات خلال 22 عامًا، بينها 177 مليار للطرق السريعة و64 مليار للسكك الحديدية.
من جهته، أوضح وزير النقل والبنية التحتية التركي، عبد القادر أورال أوغلو، أن المشروع الذي تم تدشين مرحلته الأولى هو بمثابة تجربة أولية لطريق التنمية الكامل، مشيرًا إلى أن بلاده ستتابع حركة الشاحنات المنطلقة من أراضيها حتى وصولها إلى وجهتها النهائية، في إشارة إلى تنامي أهمية التكامل اللوجستي الإقليمي.
ومن الجانب العراقي، قال مستشار رئيس الوزراء العراقي لشؤون النقل، ناصر الأسدي خلال مشاركته في المنتدى، إن بلاده تدعم المشروع بشكل كامل، معبرًا عن تطلع الحكومة العراقية إلى أن يسهم “طريق التنمية” في ربط الشرق بالغرب عبر الأراضي العراقية.
أما على المستوى الأممي، فقد أعربت الأمينة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا، تاتيانا مولسيان، عن تقديرها لنجاح المنتدى، مشيدة بالجهود المبذولة في تطوير ممرات النقل، وأبدت رغبتها في المشاركة مستقبلاً في الفعاليات الرقمية المتعلقة بالنقل البري.
وفي السياق ذاته، اعتبر الأمين العام للاتحاد الدولي للنقل البري (IRU)، أومبيرتو دي بريتو، أن النظام الجديد الخاص بعبور الشاحنات من العراق سيعود بفوائد ملموسة على الشعب العراقي، خصوصًا من خلال تسهيل وصول المنتجات المحلية إلى الأسواق العالمية بسرعة وأمان، ما يعزز مكانة العراق كممر لوجستي فاعل.

طريق التنمية.. رافعة اقتصادية واستراتيجية تربط الخليج بأوروبا

يمتد مشروع “طريق التنمية” من ميناء الفاو في جنوب العراق إلى معبر فيشخابور على الحدود التركية بطول 1200 كيلومتر، ويشمل شبكة طرق سريعة وسكك حديدية تربط 12 مدينة وتخدم أكثر من 27 مليون نسمة.
انبثقت فكرة المشروع تحت اسم “القناة الجافة”، قبل أن يُعاد تسميته رسميًا خلال لقاء بين رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني والرئيس أردوغان في مارس 2023.
يهدف المشروع إلى تعزيز الاقتصاد العراقي من خلال تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط، وتوفير آلاف فرص العمل، وتحويل العراق إلى مركز ترانزيت رئيسي بين الخليج وأوروبا. ويتكامل مع تطوير ميناء الفاو وإنشاء محطات لوجستية ومناطق صناعية على طول الطريق.
يُعتبر المشروع جزءًا من شبكة ممرات إقليمية تتنافس عليها قوى كبرى مثل الصين والولايات المتحدة، حيث أشار الرئيس التركي أردوغان إلى سعي تركيا لدمج “طريق التنمية” مع مبادرة “الحزام والطريق” و”الممر الأوسط”، الذي يربط الصين بأوروبا عبر تركيا، بهدف تحويل تركيا إلى محور لوجستي عابر للقارات.
ويُتوقع أن يحقق المشروع عوائد سنوية تصل إلى 4.85 مليار دولار، ويوفر أكثر من 100 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، ما يعزز دور العراق الاقتصادي الإقليمي.

تحليلات استراتيجية ودلالات لوجستية

وقال الخبير والباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية والمتخصص في الشؤون التركية والشرق الأوسط، شعبان عبدالفتاح إن إعادة تشغيل المسار البري بين تركيا والكويت عبر العراق يُشكل نقلة نوعية في موقع أنقرة كمحور لوجستي إقليمي يربط الخليج بأوروبا.
وأوضح عبد الفتاح، في حديث خاص لـ”نافذة الشرق” أن هذا المسار يتجاوز العقبات التي فرضها توقف الطرق البديلة، مثل المسار السوري المغلق منذ عام 2011، ويعيد تنشيط حركة النقل نحو الأردن بعد انقطاع دام 14 عامًا، بما يعزز الحضور التركي في منظومة النقل البري بالمنطقة.

وأضاف عبدالفتاح أن أنقرة تحركت مبكرًا في هذا الاتجاه استباقًا لمشروعات دولية منافسة، وفي مقدمتها “الممر الهندي – الأوروبي”، في إطار سعيها لترسيخ موقعها كلاعب رئيسي في سوق النقل العابر للقارات. ويمنحها هذا التوجه نقاط ارتكاز جديدة داخل النظام التجاري العالمي، ويدعم طموحها للتحول إلى مركز إقليمي لتوزيع السلع والبضائع.

وفي السياق نفسه، أشار عبدالفتاح إلى أن توقيع مذكرة التفاهم بين تركيا وسوريا لاستئناف حركة النقل البري بعد توقف دام 15 عامًا يمثل تطورًا إضافيًا في مسار تعزيز الربط الإقليمي، موضحًا أن المذكرة تُعيد تفعيل اتفاقية النقل البري الموقعة عام 2004، وتشمل حزمة من التسهيلات، أبرزها استخدام مرافق “رورو” للنقل البحري المباشر، وتبسيط إجراءات التأشيرات، إلى جانب تعديل رسوم الطرق، بما يُسهم في تعزيز مرونة حركة التجارة على هذا المسار الحيوي.
ويرى عبدالفتاح أن إعادة إدماج سوريا في شبكة “الممر الأوسط” يفتح أمامها فرصًا اقتصادية للمشاركة في حركة الترانزيت بين الصين وأوروبا، خاصة مع تصاعد أهمية المسارات البرية البديلة للملاحة البحرية.
وأكد عبدالفتاح أن تعدد الخيارات البرية التي تربط تركيا بالخليج، سواء عبر العراق أو سوريا، يمنح أنقرة مرونة استراتيجية أكبر في هندسة حركة التجارة، لكنه في الوقت ذاته يفتح الباب أمام منافسة إقليمية محتدمة بين الممرات على اجتذاب الاستثمارات وحركة البضائع.
وقال عبدالفتاح، إن مشروع “طريق التنمية” يحمل تحولات عميقة في التوازنات الاقتصادية والسياسية بمنطقة الشرق الأوسط، حيث يعيد رسم خطوط الاتصال بين آسيا وأوروبا عبر محور جديد يرتكز على العراق وتركيا.
وأضاف عبدالفتاح أن المشروع على الصعيد الاقتصادي يوفر بديلًا أسرع وأقل تكلفة من ممرات النقل التقليدية، ويعزز مكانة العراق كمركز لوجستي إقليمي، ما يفتح آفاقًا واسعة لتنويع مصادر الدخل بعيدًا عن الاعتماد الأحادي على صادرات النفط. كما يرفع من دور تركيا كبوابة عبور رئيسية نحو أوروبا، مما يمنحها أداة ضغط اقتصادية وجيوسياسية مهمة.
أما على الصعيد السياسي، فإن المشروع يفرض معادلة تعاون إقليمي جديدة تخفف من حدة الاستقطابات التقليدية، إذ يجمع دولًا مثل العراق وتركيا وقطر والإمارات في مسار مشترك يستند إلى المصالح الاقتصادية بعيدًا عن الاصطفافات الأيديولوجية.
وأشار عبدالفتاح إلى أن هذا التوجه يدفع قوى إقليمية أخرى مثل إيران ومصر والسعودية إلى إعادة حساباتها، خشية من تهميش دورها في منظومات النقل والربط الإقليمي الجديدة.
وأفاد بأن “طريق التنمية” لا يقتصر على كونه مشروعًا اقتصاديًا ضخمًا فحسب، بل يشكل أداة استراتيجية لإعادة هندسة النفوذ الإقليمي في العقد المقبل، معززًا مكانة المحور التركي-العراقي كفاعل مؤثر ضمن شبكة الممرات العالمية الجديدة، في ظل المنافسة المحتدمة مع ممر الهند-الشرق الأوسط-أوروبا الذي تدعمه واشنطن.
ويرى الخبير في الشؤون التركية والعلاقات الدولية أن استمرارية التعاون في مشروع “طريق التنمية” تعتمد على مجموعة من الآليات المؤسسية والتوافقات السياسية التي تعزز من فرص نجاحه على المدى البعيد.
وأوضح عبدالفتاح أن أولى هذه الآليات تتمثل في تشكيل لجان فنية ثلاثية ومنتديات وزارية دائمة بين العراق وتركيا والدول الداعمة، مثل قطر والإمارات، وذلك بهدف تنسيق مراحل التنفيذ ووضع الأطر القانونية والتنظيمية الحاكمة للمشروع، مشيرًا إلى أن آلية التمويل المشترك تُعد عنصرًا حاسمًا لضمان التزام كل طرف بدوره في بناء البنية التحتية والاستثمار فيها.
وأضاف أن المشروع يندرج ضمن رؤية تنموية عراقية تحظى بتوافق سياسي داخلي عابر للانقسامات، وهو ما يعزز من استقراره على المدى الطويل.
لفت عبدالفتاح إلى أن “طريق التنمية” يُعد امتدادًا لسياسة أنقرة الساعية إلى تعزيز نفوذها في الجوار الجنوبي من خلال أدوات التعاون الاقتصادي، بما يضمن انخراطًا استراتيجيًا طويل الأمد.
وأكد عبدالفتاح على أهمية الدور القطري والإماراتي في توفير بيئة تمويل مرنة وداعمة، ما يُضفي على المشروع طابعًا جماعيًا يقلل من احتمالات التراجع الأحادي أو تعثر أحد الأطراف، ويعزز من فرص استمرارية المشروع كمنصة إقليمية للتكامل الاقتصادي.
يرى عبدالفتاح أن مشروع “طريق التنمية” رغم ما يحمله من إمكانات واعدة، يواجه جملة من التحديات الأمنية والسياسية، التي قد تعيق تنفيذه أو تحد من فاعليته.
فعلى الصعيد الأمني، يمر المسار عبر مناطق عراقية لا تزال تعاني من هشاشة واستقرار نسبي، إضافة إلى وجود خلايا نائمة لتنظيمات متطرفة، ما يتطلب ترتيبات أمنية محكمة لحماية البنية التحتية من طرق وسكك حديد.
كما يُحذر عبدالفتاح من أن تصاعد التوترات السياسية داخل العراق، أو النزاع بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، قد يُعرقل إتمام مراحل المشروع بسلاسة.
أما إقليميًا، فُيشير عبدالفتاح إلى أن بغداد وأنقرة قد تتعرضان لضغوط من أطراف ترى في المشروع تهديدًا لمصالحها، وعلى رأسها إيران، التي تخشى من تراجع أهمية ممراتها البرية نحو البحر المتوسط، فضلًا عن بعض الأصوات في سوريا، التي تعتبر المشروع تجاوزًا لدورها المفترض في منظومة الربط الإقليمي.
وأضاف أن التباينات في السياسات الخارجية للدول المعنية قد تُصعب من استدامة التفاهمات السياسية، وهو ما يجعل نجاح المشروع مرهونًا بوجود إرادة سياسية قوية وتحصين استراتيجي للمسار من التقلبات الجيوسياسية.
وفي سياق الحديث عن آفاق التوسعة، أكد عبدالفتاح أن المؤشرات الأولية تدل على نية حقيقية لتوسيع نطاق مشروع “طريق التنمية” ليشمل أطرافًا إقليمية إضافية، ما يعزز من امتداداته الجغرافية وعوائده الاقتصادية.
وتابع عبدالفتاح قائلًا: “على الرغم من أن المرحلة الأولى تركز على الربط بين ميناء الفاو والحدود التركية، إلا أن الخطط الاستراتيجية تتضمن إمكانية ربط المشروع بموانئ الخليج العربي عبر شبكة طرق وسكك حديدية متفرعة، وهو ما يفسر انخراط دول مثل الإمارات وقطر في تقديم الدعم الفني والتمويلي”.
كما يرى عبدالفتاح أن إدماج سوريا في المشروع يظل مرهونًا بتحسن أوضاعها السياسية والأمنية، رغم أن انفتاح بغداد مؤخرًا على محاورة دمشق قد يفتح الباب أمام ربط اقتصادي مستقبلي.
ويُشير عبدالفتاح أيضًا إلى أن الموقع الجغرافي للأردن يجعله مرشحًا منطقيًا للانضمام إلى شبكة الربط، خاصةً إذا تم تعزيز الترابط بين “طريق التنمية” والممرات الخليجية–المتوسطية المقترحة خلال السنوات الأخيرة.
ويختتم عبدالفتاح قائلًا: “إن هذا الطموح في التوسعة يعكس رغبة عراقية وتركية في تحويل المشروع إلى منصة إقليمية متعددة الأطراف، لا تقتصر على ممر تجاري فحسب، بل تصبح أداة لتشكيل منظومة تعاون اقتصادي ممتد على طول محور آسيا – الشرق الأوسط – أوروبا”.