كتب : إسلام ماجد
في وقت يشهد فيه النظام الاقتصادي العالمي إعادة تشكيل عميقة، تتجه أنظار العواصم الغربية إلى ساحتين مشتبكتين، أوروبا التي تواجه هشاشة مصرفية في ظل التوتر التجاري مع الولايات المتحدة، وأميركا اللاتينية التي تشهد اختراقًا صينيًا واسعًا لموانئها الحيوية. وبينما تتراكم الضغوط على البنوك الأوروبية، تتعاظم المخاوف الأمنية في واشنطن من تغلغل بكين في البنى التحتية البحرية جنوب القارة الأميركية.
ضغوط على النظام المصرفي الأوروبي
تحذير صريح جاء من وكالة ستاندرد آند بورز غلوبال للتصنيفات الائتمانية، كشف عن هشاشة محتملة في أرباح البنوك الأوروبية الكبرى، مع استمرار التوترات التجارية العابرة للأطلسي.
في تقرير اختباري شمل 91 مصرفًا أوروبيًا، أشارت الوكالة إلى أن أرباح هذه البنوك قد تتراجع بنسبة تصل إلى 29٪ في السيناريو الأكثر تشاؤمًا، في حال تصاعدت التوترات الاقتصادية مع الولايات المتحدة أو تفاقمت الظروف الائتمانية داخليًا.
السبب الرئيسي بحسب الوكالة، يعود إلى ارتفاع تعرض البنوك لقطاعات عالية المخاطر، إلى جانب انخفاض متوقع في معدلات الربحية، واعتماد كبير على محافظ القروض، التي تمثل نسبة معتبرة من إجمالي أصولها. كل ذلك ضمن اقتصادات محلية تُعرف بحساسيتها الشديدة تجاه الصدمات العالمية.
ورغم هذه المؤشرات القاتمة، فإن الوكالة أشارت إلى نقطة مضيئة، وهي أن أياً من هذه البنوك لم يُتوقع أن يُسجّل خسائر صافية، في إشارة إلى تحسن قدرة القطاع المصرفي الأوروبي على امتصاص الصدمات الائتمانية مقارنة بما كان عليه قبل سنوات.
توقيت حرج ومؤشرات مقلقة
التحذير لم يأتِ في فراغ، بل في وقت يُرتقب فيه أن ينشر البنك المركزي الأوروبي بالتعاون مع الهيئة المصرفية الأوروبية نتائج اختبار الضغط التنظيمي الجديد مطلع أغسطس المقبل، وسط توقعات بأن تكون تأثيراته أقل حدة من اختبار عام 2023، لكن لا يُستبعد أن يُفرض على البنوك تخصيص احتياطات رأسمالية إضافية.
هذه الاحتياطات تحدّ بدورها من قدرة البنوك على توزيع الأرباح للمساهمين أو التوسع في تمويل الاستثمارات، وهو ما يضعها في موقف دفاعي في ظل بيئة اقتصادية تتسم بعدم اليقين.
ومع ارتفاع أسعار الفائدة وانخفاض مستويات القروض المتعثرة، تبدو الصورة مستقرة نسبيًا، لكن أي تصعيد أميركي في الرسوم الجمركية أو القيود التجارية قد يعيد رسم المشهد سريعًا، ما يضع القطاع أمام اختبار جديد.
توغل صيني يثير قلق البنتاغون
وبينما تكافح أوروبا من أجل حماية نظامها المصرفي، تتحرك الصين بخطى واسعة في النصف الآخر من الكرة الأرضية، حيث أظهر تقرير جديد لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية أن بكين باتت تملك وتدير 31 ميناءً نشطًا في أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وهو رقم يفوق التقديرات السابقة بأكثر من الضعف.
القلق الأميركي بلغ ذروته بشأن ميناء كينغستون في جامايكا، والذي يُدار من قبل شركة “تشاينا ميرتشنتس بورت” المملوكة للحكومة الصينية.
هذا الميناء، الذي يُعد نقطة عبور رئيسية للتجارة الأميركية في بلد حليف لواشنطن، اعتُبر الأخطر على الأمن القومي الأميركي وفق التقرير، بينما شكّلت موانئ مانزانيو وفيراكروز في المكسيك تهديدات اقتصادية مباشرة، حيث أن توقف أحدها قد يُكلف الاقتصاد الأميركي عشرات الملايين من الدولارات يوميًا.
وتزداد المخاوف الأميركية من استخدام هذه الموانئ كمنصات بحرية مستقبلية للجيش الصيني، سواء لإعادة تموين السفن أو لإغلاق الممرات البحرية أمام القوات الأميركية في حال وقوع مواجهة عسكرية.
سباق على النفوذ البحري
المخاوف الأميركية ليست جديدة. فمنذ 2024 حذرت إدارة بايدن من تغلغل بكين في قطاعات حيوية بجنوب القارة، شملت الطاقة والنقل والاتصالات.
تحذيرات أُعززت بتحليلات ربطت بين توسع الصين في إدارة الموانئ الإقليمية، وتكتيك أشبه بما يُعرف بـ”الحزام البحري”، الذي قد يمنح بكين قدرة على تعطيل أو مراقبة تدفقات الشحن العالمية في المحيطين الأطلسي والهادئ.
وفي السياق ذاته، أثارت صفقة بيع شركة “سي كي هتشيسون” لبعض موانئها إلى تحالف أميركي أوروبي بقيادة بلاك روك غضبًا عارمًا في بكين، حيث وُصفت بأنها “خيانة وطنية”، وجرى فتح تحقيق من قبل هيئة مكافحة الاحتكار الصينية في محاولة لعرقلتها.
معركة في الموانئ وأزمة في المصارف
المشهد العالمي الآن يعكس معادلة معقدة: بنوك أوروبية على شفا أزمة أرباح، موانئ أميركا اللاتينية تحت سيطرة الصين، وتوترات متزايدة بين القوى الكبرى.
وبينما تسعى أوروبا لضمان استقرارها المالي، تبدو واشنطن مشغولة بكبح صعود بحري صيني قد يغير ميزان القوى في نصف الكرة الغربي.
وفي الحالتين، يتجلى صراع النفوذ بين الشرق والغرب في صورة غير تقليدية: مزيج من الأرقام والتصنيفات والمرافئ والطرق البحرية، وكلها تعكس شكل الحرب القادمة التي قد لا تُخاض بالسلاح، بل بالمال والموانئ والسيطرة على مفاتيح التجارة العالمية.
مطالب ترامب تهدد استقرار الفيدرالي.. والخبير المصرفي يوضح أبعاد الأزمة
في تصريحات خاصة لـ”نافذة الشرق”، أكد الدكتور أحمد شوقي، الخبير المصرفي، أن إدارة السياسات النقدية في الولايات المتحدة لا يمكن أن تُدار بالقوة أو بالضغوط السياسية، وذلك في تعليق مباشر على مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة.
وأوضح شوقي أن السياسة النقدية تُبنى على أسس علمية ومعادلات اقتصادية دقيقة هدفها الأول ضبط معدلات التضخم واحتواء ارتفاع الأسعار، مشددًا على أن خفض أسعار الفائدة في الوقت الحالي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، قائلاً: “إذا تم خفض الفائدة تحت هذه الضغوط، فكيف يمكن السيطرة على التضخم؟ سيؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمة بدلًا من حلها”.
وأشار الخبير المصرفي إلى أن ما تقوم به الإدارة الأمريكية من إجراءات مالية يسير في اتجاه معاكس للسياسات النقدية الحالية، وهو ما قد يخلق حالة من التناقض بين أدوات ضبط السوق، قائلاً: “لا يمكن أن نمارس سياسة مالية توسعية تدفع نحو زيادة الإنفاق ونتوقع في الوقت ذاته من السياسة النقدية أن تلجم التضخم بخفض الفائدة، هذا تضارب واضح في أدوات إدارة الاقتصاد”.
واعتبر شوقي أن محاولات ترامب للتأثير على قرارات الاحتياطي الفيدرالي تمثل خطرًا على مصداقية البنك المركزي واستقلاله، مؤكدًا أن الأسواق تراقب تلك التدخلات بعين القلق، خصوصًا أن الاستقرار النقدي يُعد من أهم عوامل جذب الاستثمار والحفاظ على ثقة المستثمرين.
واختتم شوقي تصريحه بالتأكيد على أن معالجة التضخم لا تتم بالشعارات أو الضغوط السياسية، بل من خلال منظومة متكاملة تجمع بين الترشيد المالي والسيطرة النقدية والسياسات التجارية الحكيمة التي تحمي الاقتصاد الأميركي من التقلبات والمخاطر الخارجية.