تركيا تخلع قفاز الدبلوماسية: أردوغان يهاجم إسرائيل ويعيد تموضع أنقرة كقوة إقليمية

علياء الهواري

في منطقة تموج بالاضطرابات والحروب، وتحت سقف دولي يعاني من ازدواجية المعايير، برزت تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان لتكسر حاجز الصمت، معلنة موقفًا صريحًا يتجاوز الحسابات الدبلوماسية التقليدية. لم يكن تصريح الرئيس التركي مجرد انفعال سياسي عابر، بل رسالة محسوبة الأبعاد، جمعت بين التصعيد الكلامي والتموضع الاستراتيجي، ورسخت ملامح تحول في سياسة أنقرة تجاه إسرائيل، وإعادة بلورة دورها في الإقليم. فهل تعود تركيا لتكون قطبًا محوريًا في المعادلات الشرق أوسطية؟ وما أبعاد هذا التغيير الذي بدأ بخطاب، لكنه يتجه ليُترجم إلى قرارات ومواقف على الأرض؟

أردوغان يكشف أوراقه: هجوم غير مسبوق على إسرائيل

في كلمة لاقت اهتمامًا عالميًا، وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “أكثر دموية من هتلر”، مؤكدًا أن حكومته تمارس إرهاب الدولة بحق الفلسطينيين والإيرانيين، في سياق التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران. هذه التصريحات، التي أُطلقت خلال اجتماع طارئ لمنظمة التعاون الإسلامي، لم تكن مجرد إدانة تقليدية، بل حملت رسائل متعددة المستويات، سياسية وعسكرية وإنسانية.

بحسب السفير الدكتور ممدوح جبر، مساعد وزير الخارجية الفلسطيني الأسبق وأستاذ العلوم السياسية، فإن الخطاب التركي الأخير يعكس تغييرًا جذريًا في موقف أنقرة، حيث أكد أردوغان دعم بلاده المطلق لحق إيران في الدفاع عن نفسها، ورفضه التام للعدوان الإسرائيلي، مشيرًا إلى أن تركيا “لن تسمح باختبار صبرها أو استفزازها”، وهو ما يُعد تحذيرًا مبطنًا لأي توسع إسرائيلي قد يطال مصالحها أو أمن المنطقة.

الصمت التركي السابق.. هل كان حيادًا أم انتظارًا للفرصة؟

لفترة من الزمن، بدت تركيا وكأنها تتخذ موقف الحياد أو الحذر من التصعيدات الإسرائيلية المتكررة، خصوصًا تجاه غزة والضفة الغربية. لكن، وكما أوضح د. ماهر صافي، الخبير والمحلل السياسي، فإن هذا الحذر لم يكن حيادًا، بل محاولة لإدارة التوازنات المعقدة في المنطقة، لا سيما أن تركيا عضو في حلف الناتو، وترتبط بشبكة مصالح دولية معقدة.

دكتور ماهر صافي يوضح أن “تركيا لم تكن صامتة، بل كانت تنتقد إسرائيل بشكل واضح، خاصةً في الأزمات الكبرى، لكنها فضّلت الدبلوماسية على التصعيد”. اليوم، ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على إيران وتهديد الأمن الإقليمي، تغيّر المشهد، وخرج أردوغان عن صمته، معلنًا دعمًا سياسيًا وعسكريًا ضمنيًا لطهران، ومؤكدًا أن أنقرة مستعدة لأي سيناريو محتمل.

تجميد الاتفاقات.. خطوة تكتيكية أم بداية قطيعة؟

العلاقات التركية الإسرائيلية لطالما اتسمت بالتذبذب. فبعد الهجوم على سفينة “مافي مرمرة” عام 2010، دخلت العلاقات في نفق طويل من التوتر، تجمدت خلاله عدة اتفاقيات عسكرية وتجارية. واليوم، يتجدد المشهد ذاته مع اختلاف الحيثيات. يشير السفير د. ممدوح جبر إلى أن “الدبلوماسية الشعبية في تركيا كان لها دور كبير في الضغط على الحكومة، ما دفعها إلى اتخاذ قرارات بتجميد عدد من الاتفاقيات العسكرية، وتعليق تعاون اقتصادي وتجاري واضح مع الكيان الصهيوني”.

ويوضح جبر أن أنقرة بدأت فعليًا في اتخاذ خطوات عملية، تتضمن إعادة تقييم العلاقات العسكرية، وخفض التبادل التجاري في قطاعات حساسة، في إطار استراتيجية لإعادة تموضع تركي أكثر استقلالية عن السياسات الغربية المتساهلة مع إسرائيل.

الدور القيادي.. هل يعود أردوغان إلى واجهة الزعامة الإقليمية؟
ما بين تصاعد خطاب المواجهة، والدعم المعلن للقضية الفلسطينية، والتحذير من الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة، يسعى أردوغان إلى إعادة رسم دور تركيا كقوة إقليمية لا يُستهان بها. الدكتور ماهر صافي يرى أن “أردوغان يدرك أن البقاء في موقع المتفرج لن يخدم مصالح تركيا الاستراتيجية، وأن تحركاته الأخيرة تشير إلى رغبة قوية في استعادة هيبة الدور التركي على الساحة الإسلامية والعربية”.

ويضيف دكتور ماهر صافي: “تركيا باتت تُعبّر عن طموحها في لعب دور الوسيط القوي أو حتى الطرف الفاعل، وهي تبني ذلك على مزيج من القدرات العسكرية المتقدمة والتحرك الدبلوماسي النشط”. من وجهة نظره، فإن تركيا تستثمر التصعيد الإسرائيلي كفرصة لتعزيز حضورها الدولي، وبناء تحالفات جديدة تُعزز مكانتها كقوة قادرة على التأثير في توازنات المنطقة.

الصراع القادم.. تركيا كلاعب أم حكم؟

أمام التحولات الجارية، يبدو أن تركيا لا تسعى إلى الدخول في مواجهة مباشرة، لكنها تهيئ نفسها لتكون رقمًا صعبًا في أي معادلة سياسية أو أمنية مقبلة. من الواضح أن أردوغان يرفض التصعيد العسكري المباشر، لكنه لا يتوانى عن استخدام أدواته الناعمة والصلبة في آنٍ معًا، بدءًا من التصريحات الحادة، مرورًا بتجميد الاتفاقات، ووصولًا إلى تعبئة الرأي العام الإقليمي والإسلامي.

السفير ممدوح جبر يلفت إلى أن “أردوغان يعتمد على قوة الدبلوماسية التركية وتأثيرها المتزايد في دوائر القرار الإسلامي، ويستغل هذا التأثير لإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، خاصة مع الدول المتضررة من التوسع الإسرائيلي”. ويرى جبر أن “تركيا تستفيد من تجربة السنوات الأخيرة، وتسعى لتثبيت نفسها كقوة ضامنة للتوازن، إن لم تكن قوة مواجهة”.

بين التصعيد الإسرائيلي المستمر، والتغيرات المتسارعة في توازنات القوى الإقليمية، تقف تركيا اليوم في مفترق طرق حاسم. فخطاب أردوغان الأخير لم يكن مجرد رد فعل، بل إعلانٌ عن دخول أنقرة مرحلة جديدة من الحضور الإقليمي، مدفوعًا بالرغبة في استعادة النفوذ والهيبة، ومرتكزًا على خطاب شعبي ورسمي يُعيد التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية ورفض الهيمنة الإسرائيلية.

تركيا اليوم تقول بوضوح: لن نقف صامتين. وبالفعل، لم يعد الصوت التركي همسًا، بل صدىً يرتدّ في قاعات السياسة الدولية، ويُعيد رسم خريطة التأثير في الشرق الأوسط.