كتبت: هدير البحيري
في ظل التصعيد غير المسبوق بين إيران وإسرائيل، تجد تركيا نفسها في موقع دقيق على خريطة التوازنات الإقليمية، تسعى فيه إلى حماية أمنها القومي وتعزيز دورها كوسيط، دون الانجرار إلى أي صدام مباشر.
وتحاول أنقرة من خلال تحركات دبلوماسية مكثفة التوفيق بين مصالحها المتشابكة مع طهران وتل أبيب، في ظل تحديات متزايدة وفرص كامنة.
تحركات دبلوماسية مكثفة ورسائل مزدوجة
منذ تصاعد التوترات، قادت تركيا جهودًا دبلوماسية حثيثة، شملت اتصالات أجراها الرئيس رجب طيب أردوغان مع نظرائه في إيران ومصر والسعودية، إضافة إلى تحركات لوزير الخارجية هاكان فيدان مع نظرائه في مصر والعراق والأردن وأذربيجان.
وأظهرت التصريحات الرسمية التركية تبني خطاب يدمج بين الإدانة الصريحة للهجمات الإسرائيلية والدعوة إلى التهدئة، مع تحذير من مخاطر انفجار إقليمي واسع.
وصف أردوغان إسرائيل بقيادة نتنياهو بأنها “التهديد الأكبر لاستقرار المنطقة، معتبرًا أن ما ترتكبه في غزة من “إبادة جماعية” شجعها على التصعيد ضد إيران.
وفي المقابل، شدد فيدان على أن “الدبلوماسية هي البديل الوحيد للحرب”، محذرًا من سيناريوهات تشمل تسربًا نوويًا من منشآت مثل نطنز.
قلق أمني ومصالح مهددة على حدود مشتعلة
رغم تمسكها بخطاب الوساطة، تدرك أنقرة أن أي تصعيد بين إيران وإسرائيل يمسّ مباشرة مصالحها وأمنها القومي، خصوصًا على جبهات عدة:
• الحدود الشرقية الحساسة: المناطق الإيرانية المحاذية لتركيا تضم أقليات كردية وطائفية، وتشهد نشاطًا متزايدًا لشبكات التهريب. أي ضربات عسكرية متبادلة قد تفتح الباب أمام موجات نزوح وتصاعد لنشاط حزب العمال الكردستاني.
• التهديد النووي والبيئي: الحديث عن استهداف منشآت نووية إيرانية يثير قلق أنقرة من تسرب إشعاعي يطال أجواءها ومياهها، ما يفسر سرعة استنفار أجهزتها الأمنية والدبلوماسية.
• اختلال توازن القوى الإقليمي: انتصار كاسح لأي من الطرفين سيعيد رسم ملامح المنطقة. تفوق إيران يضيق هامش تركيا في سوريا والعراق، بينما تفوق إسرائيل يقوّض قدرتها على لعب أدوار استراتيجية في غزة والقوقاز.
• مصالحها في سوريا والعراق: التعاون الميداني مع إيران في سوريا والتنسيق في شمال العراق قد يتعرض للاهتزاز إذا ضعفت طهران، وهو ما قد يعقّد عمليات أنقرة ضد حزب العمال الكردستاني.
• ملف الطاقة والتجارة: تركيا تستورد الغاز من إيران، لكن أي عقوبات أو ضربات قد تعطل الإمدادات. ومع ذلك، ترى أنقرة في الفوضى الإيرانية فرصة لطرح نفسها كممر بديل للطاقة نحو أوروبا.
فرص استراتيجية وسط الفوضى
رغم المخاطر، ترى أنقرة في هذا التصعيد فرصًا لتعزيز مكانتها:
• الوساطة النووية: علاقاتها المتوازنة مع طهران وتل أبيب وواشنطن تمنحها فرصة للعب دور وسيط في المفاوضات النووية، معززة بخطاب أردوغان عن “العدالة الإقليمية”.
• ممرات بديلة للطاقة والتجارة: التوتر في الخليج قد يعزز من أهمية مشاريع تركية مثل “الممر الأوسط” وممر “زنجزور”، كممرات آمنة بين آسيا وأوروبا.
• تعزيز مكانتها بين طهران والغرب: تظهر تركيا أمام إيران كحليف سياسي، وأمام الغرب كصوت عقلاني يضغط على طهران دون تصعيد، ما يمنحها وزنًا داخل الناتو والمنظومة الغربية.
• نفوذ أكبر في سوريا والعراق: إضعاف إيران قد يفتح الباب أمام أنقرة لتوسيع نفوذها في الشمال السوري وشمال العراق، مستفيدة من الفراغ الناتج عن انحسار الحضور الإيراني.
التجارة التركية مع إيران وإسرائيل: الاقتصاد في قلب الحسابات
رغم التوترات، تمثل العلاقات التجارية عنصرًا مؤثرًا في الحسابات التركية:
• مع إيران: بلغ حجم التبادل التجاري عام 2023 نحو 5.49 مليار دولار، بفائض لصالح أنقرة.
وخلال 2024–2025، سجلت التبادلات ارتفاعًا إلى 17.5 مليار دولار حتى فبراير، مع توقعات بتجاوز 19 مليارًا نهاية العام.
وتشير بيانات الجمارك الإيرانية إلى أن الميزان التجاري يميل لصالح تركيا.
• مع إسرائيل: وصل حجم التبادل في 2023 إلى 6.8 مليار دولار، شكلت فيه الصادرات التركية 5.4 مليار. ورغم الخلافات السياسية، تستمر العلاقات الاقتصادية بوتيرة تصاعدية.
تنافس خفي في الساحة السورية
في سوريا، يتقاطع الوجود التركي والإسرائيلي دون صدام مباشر، لكن على خلفيات متناقضة. فبينما تضرب إسرائيل مواقع الحرس الثوري جنوبًا، تركز تركيا على منع قيام كيان كردي شمالًا.
وتخشى أنقرة من تنسيق إسرائيلي–روسي قد يغير موازين القوى في الجنوب السوري، كما تتابع بحذر أي تعاون محتمل بين تل أبيب والقوى الكردية، خاصة في المجالات الاستخبارية.
في هذا السياق، تبدو إيران لاعبًا ثالثًا لا يقل أهمية في معادلة الصراع غير المعلن بين تركيا وإسرائيل داخل الأراضي السورية. فطهران ترى في الوجود العسكري التركي في الشمال السوري تهديدًا مباشرًا لحلفائها من النظام السوري ولنفوذها الممتد على طول محور دمشق–حلب.
وفي الوقت نفسه، تخوض إيران مواجهة مفتوحة مع إسرائيل التي تستهدف بشكل متكرر مواقعها وقواعدها اللوجستية في الجنوب والوسط السوري.
وبين هذين الخصمين، تسعى إيران إلى ترسيخ حضورها عبر دعم ميليشيات محلية، وتكثيف التنسيق مع موسكو ودمشق، مع مراقبة دقيقة لأي تفاهمات ميدانية بين أنقرة وتل أبيب قد تؤثر على توازنات الصراع أو تمهد لتفاهمات إقليمية على حساب مصالحها في سوريا.
من مصلحة تركيا من ينتصر.. إيران أم إسرائيل؟
تدرك تركيا أن انتصار إيران أو إسرائيل بشكل حاسم لا يصب في مصلحتها؛ فسقوط طهران يهدد أمنها الحدودي ويفتح الباب أمام تمدد إسرائيلي في سوريا، أما تفوق تل أبيب فيقلص من دور أنقرة في غزة والطاقة والقوقاز.
ولذا، تفضل أنقرة صراعًا محدودًا يبقي على التوازن القائم، ويفسح لها المجال لتعزيز نفوذها دون خسائر مباشرة.
هذا ما يفسر تمسكها بخطاب التهدئة، وسعيها لتحويل الأزمة إلى ورقة تفاوض تعزز من موقعها في المشهد الإقليمي المعقد.
وفي حديث خاص لـ”نافذة الشرق”، قال الباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، والمختص في الشؤون التركية وقضايا الشرق الأوسط، بكر محمد البدور، إن من السابق لأوانه الحديث عن اضطرار تركيا للاختيار بين الطرفين الإيراني والإسرائيلي، رغم التماس الجيوسياسي بين أنقرة وكل من طهران وتل أبيب. وأوضح أن هناك حسابات دبلوماسية دقيقة، ومخاوف أمنية، ومصالح اقتصادية بالغة الأهمية للجانب التركي، تجعل من الصعب تبني موقف منحاز لأي من الطرفين في هذه المرحلة.
وأضاف البدور أن “تفجر الصدام العسكري بين إيران وإسرائيل يخلق مناخًا جديدًا في المحيط الإقليمي والدولي، قد يُفضي إلى إعادة بناء التحالفات والاصطفافات، لكن في المدى المنظور لا يبدو أن تركيا مضطرة للاصطفاف مع أحد الطرفين”. ولفت إلى أن “العلاقات التركية-الإيرانية يحكمها عامل الجوار الجغرافي، وإن كانت هناك تباينات واضحة في ملفات مثل سوريا، بينما تشهد العلاقات التركية-الإسرائيلية توترًا سياسيًا متصاعدًا، خصوصًا منذ التحول في موقف أنقرة من الحرب الإسرائيلية على غزة”.
وأشار إلى أن “الموقف التركي من الحرب الروسية-الأوكرانية يُعد مثالًا على سعي أنقرة للحفاظ على الحياد، فقد تجنبت الانحياز للغرب أو تأييد موسكو، وسعت للعب دور الوسيط بين الجانبين، من صفقات الحبوب إلى جولات المحادثات، ومن المرجح أن تعتمد تركيا نهجًا مماثلًا في الأزمة الإيرانية–الإسرائيلية”.
وحول احتمال امتداد الضربات الإسرائيلية إلى أهداف داخل أذربيجان أو العراق، قال البدور إن “كل السيناريوهات في المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية تبقى واردة ومفتوحة، ولا تزال المواجهة في بداياتها، وهذا الأمر يُقلق أنقرة، باعتبارها من أكثر الأطراف تأثرًا بنتائج التصعيد، بسبب تماسها المباشر مع ساحة الصراع، وارتباطها بشبكات نقل الطاقة والمصالح الحيوية”.
وتابع: “حتى لو شنت إيران ضربات ضد أهداف في العراق أو أذربيجان، فإن المستهدف على الأرجح سيكون قواعد أو مصالح أمريكية أو إسرائيلية، ما يعني أن تركيا لن تكون معنية بالرد العسكري، لكنها قد تحاول إقناع إيران بعدم توسيع نطاق المواجهة. إلا أن هذا يتوقف أيضًا على سلوك دول الجوار، وعلى رأسها أذربيجان، التي حذرتها إيران من السماح باستخدام أراضيها في أي هجوم ضدها”.
أما عن تأثير التصعيد على تموضع تركيا داخل حلف الناتو، فأكد البدور أن “رغم حدة التوتر في الإقليم، لا تسعى أنقرة في المدى المنظور إلى تغيير علاقتها بالحلف، الذي انضمت إليه منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي في الوقت نفسه تعمل على إحياء مسار الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”.
واستدرك قائلًا: “لكن عضوية تركيا في الناتو لا تمنعها من تبني مواقف سياسية مغايرة لبقية دول الحلف، بل حدث ذلك مرارًا، كما يمكن لأنقرة أن تمتنع عن المشاركة في بعض الأنشطة العسكرية إذا ما تعارضت مع مصالحها الحيوية بشكل مباشر”.