خطاب سياسي يتصادم مع واقع اقتصادي بمليارات الدولارات: هل قطعت أنقرة فعلًا علاقاتها التجارية والجوية مع إسرائيل؟

كتبت: هدير البحيري

في خطوة اعتبرت رمزية أكثر من كونها عملية، أعلنت تركيا قطع علاقاتها التجارية والجوية مع إسرائيل احتجاجًا على الحرب في غزة، بينما تؤكد تل أبيب أن التجارة والرحلات الجوية لم تتوقف، ما يكشف التباين الكبير بين الخطاب السياسي والواقع الميداني.
يأتي هذا التصعيد في وقت حساس، مع الاعتراف الإسرائيلي بإبادة الأرمن وتنامي النفوذ التركي والإسرائيلي في سوريا، ليكشف عن صراع نفوذ إقليمي معقد يتجاوز مجرد خلاف حول غزة، ويعكس حسابات سياسية واستراتيجية دقيقة للجانبين.
أعلن وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الجمعة أمام البرلمان التركي أن أنقرة أنهت جميع علاقاتها التجارية مع إسرائيل.
وقال فيدان: “لقد قطعنا العلاقات التجارية مع إسرائيل بشكل كامل”، مؤكدًا توقف السماح للسفن التركية بالتوجه إلى الموانئ الإسرائيلية، ومنع دخول الطائرات الإسرائيلية إلى الأجواء التركية.
وأضاف الوزير التركي أن هذه الإجراءات تأتي احتجاجًا على الحرب في غزة، ومعارضة لكل الخطط الرامية لتهجير الشعب الفلسطيني، وانتقاد محاولة إسرائيل إدخال دول المنطقة في حالة فوضى.
لكن مصدرًا دبلوماسيًا تركيًا أوضح أن القرار يشمل فقط الرحلات الرسمية والإسرائيلية التي تحمل أسلحة وذخيرة، ولا يشمل الرحلات التجارية العابرة للأجواء التركية.
ورغم إعلان تركيا، أكدت شركات الطيران الإسرائيلية أنها لم تتلق أي تعليمات جديدة بشأن إغلاق المجال الجوي التركي، وأن رحلاتها مستمرة كما هو مخطط، وفق ما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.
وانتقد رئيس اتحاد غرف التجارة الإسرائيلية، شهار ترجمان القرار، واصفًا إياه بأنه “ضد مصلحة التجار في الجانبين”، مشيرًا إلى أن إسرائيل وجدت بدائل في عام 2024، لكن القرار قد يسبب اضطرابًا في سلسلة التوريد، خاصة للنفط الأذربيجاني الذي كان يمر عبر تركيا بنسبة 40% من احتياجات إسرائيل.

يأتي هذا التصعيد على خلفية تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي اعترف لأول مرة بأن المجازر التي ارتُكبت بحق الأرمن في عهد الدولة العثمانية عام 1915 تشكل “إبادة جماعية”، وذلك خلال بودكاست أمريكي.
وأثار هذا الاعتراف غضبًا واسعًا في تركيا، حيث اعتبرت وزارة الخارجية أن تصريحات نتنياهو محاولة لاستغلال المآسي التاريخية لأغراض سياسية وتغطية جرائم حكومته في قطاع غزة.
ويُعد هذا الاعتراف عاملًا رئيسيًا في تصاعد التوتر بين أنقرة وتل أبيب، حيث ردت تركيا بوقف التجارة ومنع الطائرات الإسرائيلية من استخدام أجوائها، في خطوة اعتبرتها بعض التحليلات رمزية أكثر منها عملية.

حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل
بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل نحو 7 مليارات دولار في عام 2023، بما يعكس عمق الترابط الاقتصادي بين الجانبين.
وفي عام 2024، بلغ حجم التبادل التجاري ما يقارب 4.4 مليارات دولار، بينها أكثر من 1.5 مليار دولار صادرات تركية، ونحو 2.9 مليار دولار واردات، بحسب بيانات الأمم المتحدة. وذلك على الرغم من إعلان أنقرة في مايو 2024 وقف جميع أشكال التجارة مع إسرائيل.
وفي عام 2025 الجاري، واصل التبادل التجاري زخمه. فقد أظهرت بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي أن تركيا صدرت خلال الأشهر الخمسة الأولى فقط ما قيمته 394 مليون دولار من السلع، لتحتل المرتبة الخامسة بين موردي إسرائيل بعد الصين والولايات المتحدة وألمانيا وإيطاليا.
وتكشف هذه الأرقام عن فجوة واضحة بين التصعيد السياسي والخطاب الرسمي من جهة، والواقع الاقتصادي من جهة أخرى.

المعهد الأمريكي: الهيمنة على سوريا جوهر الصراع بين أنقرة وتل أبيب

ويرى معهد كوينسي الأمريكي للأبحاث أن الشرق الأوسط يشهد تحولات جوهرية مع تراجع النفوذ الإيراني وصعود تركيا وإسرائيل كقوتين متنافستين.
فبعد ثلاثة عقود من صراع إسرائيلي–إيراني لم يُحسم، باتت تل أبيب ترى في أنقرة خصمًا استراتيجيًا، إذ تقوم عقيدتها الأمنية على فرض الهيمنة لا الاكتفاء بالتوازن، نظرًا لعضويتها في الناتو ومجموعة العشرين، وقدرتها على الإفلات من العقوبات.
ويشير المعهد الأمريكي إلى أن مجمل التحركات التركية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد – من تعزيز وجودها العسكري في وسط البلاد، إلى الدفع بخطوط الغاز الأذربيجاني بتمويل قطري، مرورًا بمحاولاتها منع قيام كيان كردي – عكست توجهًا استراتيجيًا متصاعدًا.
فقد كشفت هذه الخطوات عن رغبة أنقرة في إعادة تشكيل خريطة الطاقة الإقليمية، وتحويل سوريا إلى ممر استراتيجي يعزز مكانتها كمركز إقليمي للطاقة.
وفي المقابل، تعمل إسرائيل على إعادة تشكيل المشهد السوري عبر الدفع نحو نظام فيدرالي يفتت السلطة المركزية، وتحويل الجنوب إلى منطقة منزوعة السلاح، بالتوازي مع تكثيف غاراتها الجوية، وصولًا إلى استغلال اضطرابات السويداء بذريعة “حماية الدروز”، وهو ما تعتبره أنقرة تهديدًا مباشرًا لمشروعها الاستراتيجي في سوريا.

حقيقة المقاطعة التركية لإسرائيل
ويوضح خبير الشؤون الإسرائيلية محمد البحيري أن تركيا لم تعلن عن أي قرارات جديدة تخص إسرائيل، بغض النظر عن مدى مصداقيتها وفعاليتها.
ويقول البحيري في حديث خاص لـ”نافذة الشرق” إن من الخطير جدًا أن تخضع بعض وسائل الإعلام العالمية التي من المفترض أنها “كبيرة” لتأثيرات الحملات الممنهجة والموجهة على وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرًا إلى أن الحالة التركية مثال واضح على ذلك.
ويضيف البحيري أن وسائل التواصل الاجتماعي ضجت بالترويج لما وصفته بقرارات تركية شجاعة في مواجهة إسرائيل بسبب حرب غزة، وسقطت بعض وسائل الإعلام في هذا الفخ الساذج، فأصبحنا نرى وسائل الإعلام، التي من المفترض أن تقود الرأي العام وتوجهه، هي التي تسير خلف الرأي العام “بجهله” وترسخ لحملات التضليل.
ويقول خبير الشؤون الإسرائيلية إن ما حدث في الحقيقة هو أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تحدث أمام البرلمان التركي ليستعرض قرارًا قديمًا أعلنته بلاده في مايو 2024، أي قبل أكثر من عام وربع، بقطع العلاقات التجارية بالكامل مع إسرائيل.
وأضاف: “كان الوزير التركي يحاول الدفاع عن الحكومة أمام البرلمان الذي سأل فيه نواب عما فعلته تركيا لنصرة الفلسطينيين في غزة ضد إسرائيل، وتركيا فعلًا لم تفعل شيئًا!”.
وحول جدوى قرار المقاطعة التركية لإسرائيل في 2024، يقول البحيري: “في الحقيقة ما حدث هو العكس، فلم تتوقف البضائع التركية ولو ليوم واحد عن التدفق إلى إسرائيل، كما أن هناك تعاون عسكري واستخباراتي دقيق ووطيد بين الجانبين”.
وعن قرار تركيا إغلاق المجال الجوي أمام الطيران الإسرائيلي، أوضح البحيري أن القرار يخص فقط الطائرات العسكرية الإسرائيلية وطائرات المسؤولين الإسرائيليين، أما الطائرات المدنية والتجارية الإسرائيلية فتستخدم المجال الجوي التركي بحرية تامة، لافتًا إلى إمكانية التأكد من ذلك بسهولة عبر مواقع تتبع الرحلات الجوية ومسارات الطيران بين تركيا وإسرائيل.

دور مصر في غزة

ويلفت البحيري إلى أن تساؤلات النواب الأتراك جاءت في ظل بروز الدور المصري في أزمة غزة، حيث بات من الواضح أن مصر، التي تواجه تحديات اقتصادية صعبة ومعقدة، هي التي تقدم 80% من إجمالي المساعدات العالمية إلى الفلسطينيين في غزة، أي أن العالم كله، بما يشمل تركيا والاتحاد الأوروبي والدول العظمى والدول الثرية والإسلامية والعربية وغيره، يقدم فقط 20% من المساعدات المخصصة لغزة! وهذا بالإضافة إلى الدور المصري المحوري في المفاوضات الرامية إلى وقف الحرب، بمشاركة قطر، فضلًا عن تصدي مصر بمفردها للمخططات الإسرائيلية الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم في غزة، على الرغم من التهديدات والضغوط التي تتعرض لها القاهرة.

إسرائيل وإبادة الأرمن
وعن سر توقيت مساءلة النواب الأتراك لحكومتهم، يقول البحيري إن الأمر لا يتعلق في الحقيقة بغزة، وإنما بما أعلنته إسرائيل يوم الثلاثاء، بشأن اعترافها بإبادة الأرمن على يد الأتراك والدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا خلال عامي 1915 و1916، وهي مسألة شديدة الحساسية بالنسبة لتركيا التي غضبت كثيرًا، فتساءل البرلمان التركي عن الإجراءات التي يمكن الرد بها على إسرائيل، وهنا تأتي حرب غزة لتسويق الرد التركي والخروج به من الحيز الضيق لإطار الرد بين دولتين، إلى الحيز الإقليمي والدولي، لوضع صورة تركيا في صورة الدولة التي تدافع عن غزة.

إسرائيل وتركيا في سوريا
وذهب البعض إلى أن قرارات تركيا، التي تبين أنها ليست قرارات جديدة وإنما إشارة إلى قرارات سابقة، ربما تتعلق بالاعتداءات والتوغلات الإسرائيلية في سوريا، التي باتت تبدو كإقليم تابع لتركيا.
وهنا يقول البحيري إن تركيا لم ولن تفعل شيئًا لمواجهة إسرائيل في سوريا، مشيرًا إلى أن تركيا دولة في عضو حلف شمال الأطلنطي (الناتو) الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، التي هي الراعي الأكبر والقوة الحامية لإسرائيل والداعمة لها في كل اعتداءاتها وحروبها ومخططاتها، بحسب تعبيره.
ويلفت خبير الشؤون الإسرائيلية إلى مفاوضات أذربيجان التي جرت منها عدة جولات بين إسرائيل وتركيا لبحث الإجراءات الرامية إلى عدم التصادم العسكري بينهما في سوريا، وهو تعبير دبلوماسي لما يمكن ترجمته بلغة أبسط إلى: “تمكين إسرائيل وتركيا من تحقيق أطماع كل منهما في سوريا والتنسيق بينهما حتى لا تتعارض مصالحهما هناك وصولًا إلى الصدام العسكري”.

ويقول البحيري إن تركيا مثلًا لم تتطرق إلى أي إجراء بشأن أنبوب النفط الذي يمر بأراضيها ويتم من خلاله تصدير نفط أذربيجان إلى إسرائيل، مشيرًا إلى تأكيد مسؤولين إسرائيليين، بحسب صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، أن عمليات الاستيراد والتصدير والتجارة بين إسرائيل وتركيا لم تتوقف أبدًا، وإنما باتت فقط تتم عبر دولة ثالثة قدر الإمكان، مثل قبرص واليونان والأردن، ما يجعلنا أمام “قرارات استعراضية غير فعالة”.