كتبت: هدير البحيري
رغم مرور أكثر من خمس سنوات على توقيع مذكرة التفاهم البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية في نوفمبر 2019، لا يزال الاتفاق يشكل محورًا مركزيًا في التوترات السياسية والقانونية في شرق البحر المتوسط. فقد أعاد الاتفاق رسم مناطق النفوذ البحرية بين أنقرة وطرابلس، ما أعاد تشكيل التوازنات الجيوسياسية في منطقة تشهد تنافسًا حادًا على ثروات الغاز وخطوط الطاقة. في هذا الإطار، تحولت التحالفات الطاقية إلى أدوات نفوذ سياسية وعسكرية، تزيد من تعقيد المشهد الإقليمي.
جذور الأزمة البحرية.. وتوتر متجدد
يعود أصل الأزمة إلى رفض دول عدة، منها اليونان وقبرص ومصر، للاتفاق، معتبرة إياه انتهاكًا لقانون البحار واعتداءً على الحقوق السيادية للدول المجاورة.
وتفاقمت الأزمة في أكتوبر 2022، مع توقيع تركيا وليبيا مذكرة تفاهم ثانية، منحت أنقرة صلاحيات موسعة للتنقيب عن النفط والغاز في الأراضي والمياه الليبية.
ومنذ ذلك الحين، تصاعد التنافس البحري وأصبح من أكثر الملفات حساسية في شرق المتوسط، مع توسيع أنقرة نطاق اتفاقياتها الطاقية مع طرابلس، التي تشمل التنقيب وتمويل مشاريع مشتركة لتطوير البنية التحتية.
ردود الفعل الأوروبية والتركية
واجه الاتفاق البحري التركي–الليبي انتقادات أوروبية واسعة، إذ وصفه الاتحاد الأوروبي بأنه “انتهاك للحقوق السيادية لدول ثالثة”.
وخلال قمة بروكسل، أكد رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أن الاتفاق “غير قانوني ولا أساس له”، داعيًا لتوجيه رسالة أوروبية حازمة إلى ليبيا.
في المقابل، ردت أنقرة بوصف الموقف الأوروبي بأنه “منحاز سياسيًا”، مؤكدة أن ترسيم الحدود البحرية “مسألة قانونية لا يجب تسييسها”، وأن تركيا “لن تسمح بالمساس بحقوقها ومصالحها في شرق المتوسط”.
وفي خطوة وصفها مراقبون بأنها تحمل أبعادًا تتجاوز ملف الهجرة، أرسلت اليونان سفنًا حربية إلى شرق المتوسط، مبررة ذلك بتزايد تدفقات الهجرة غير الشرعية من ليبيا.
غير أن محللين ربطوا الخطوة بتصاعد التوتر مع تركيا، معتبرين أن الهجرة قد تُستخدم كورقة ضغط في سياق النزاع البحري.
وشدد البيان الختامي لقمة الاتحاد الأوروبي على ضرورة تعزيز التعاون مع ليبيا في ملف الهجرة، مع الإشارة إلى المخاوف من استخدام هذا الملف كورقة ضغط سياسية.
تقارب حذر يعيد تشكيل مشهد المتوسط
في تطور لافت، أعلن المتحدث باسم البرلمان الليبي، عبدالله بليحق، عن تشكيل لجنة فنية لمراجعة مذكرة التفاهم البحرية الموقعة عام 2019، والتي كانت قد رفضتها سابقًا سلطات شرق ليبيا.
ويأتي هذا التحول في ظل مؤشرات على تقارب تركي–ليبي، أبرزها زيارة صدام حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، إلى أنقرة ولقائه وزير الدفاع التركي يشار جولار في أبريل الماضي، وهو ما فسره مراقبون كبداية لتفاهم استراتيجي قد يعيد تشكيل موازين القوى في شرق المتوسط.
وفي الوقت ذاته، أفادت تقارير صحفية بأن اليونان تبذل جهودًا دبلوماسية لحث القاهرة على منع تمرير الاتفاق من جانب حكومة حفتر، خشية تحول استراتيجي يعزز النفوذ التركي في المنطقة.
ليبيا واليونان في دائرة التوتر
تصاعد التوتر على الجبهة الليبية–اليونانية عقب تحركات يونانية أحادية لترسيم الحدود البحرية جنوب جزيرة كريت، ما دفع حكومة الوحدة الوطنية الليبية إلى توجيه تحذير إلى أثينا من فرض أمر واقع، داعية إلى حل دبلوماسي تفاوضي.
كما استدعت وزارة الخارجية الليبية القنصل اليوناني في بنغازي احتجاجًا على تصريحات رسمية صدرت من أثينا، في حين وقعت المؤسسة الوطنية للنفط الليبية مذكرة تفاهم مع شركة النفط التركية (TPAO) لدراسة أربع مناطق بحرية.
ورغم الانقسام السياسي الحاد داخل ليبيا، قدمت حكومتا الشرق والغرب مذكرتي احتجاج رسميتين ضد التحركات اليونانية، في مشهد نادر يعكس توافقًا داخليًا على رفض ما يُعتبر مساسًا بالسيادة الوطنية.
موقف موحد من حكومتي ليبيا.. ورفض قاطع للمساس بالسيادة
أكد رئيس حكومة شرق ليبيا، أسامة حماد، أن التعاون مع تركيا يتم وفقًا للشرعية الدولية، محذرًا من “التصعيد والتحريض اليوناني”، ومشددًا على أن “الحقوق البحرية الليبية غير قابلة للتفاوض”.
في المقابل، جددت حكومة الوحدة الوطنية رفضها للتحركات اليونانية، معتبرة أن أي عمليات تنقيب أحادية جنوب كريت تمثل “انتهاكًا صريحًا للسيادة الليبية”، داعية إلى تسوية قانونية تحمي مصالح جميع الأطراف.
صراع قانوني داخل ليبيا.. ودعوات للتريث
على الرغم من تعزيز التعاون بين أنقرة وطرابلس، يظل الاتفاق البحري محل جدل داخلي في ليبيا، حيث يرى قانونيون أنه أُبرم “تحت ضغوط سياسية وأمنية”، ويفتقر إلى إجراءات التصديق الدستورية اللازمة.
ويحذر خبراء من أن استمرار الانقسام السياسي يُضعف الموقف التفاوضي الليبي، ويفتح الباب أمام تدخل قوى خارجية لفرض أمر واقع في شرق المتوسط، مطالبين برفع القضية أمام المحاكم الدولية بدلاً من تمرير اتفاقيات سيادية دون توافق وطني حقيقي.
وفي هذا الإطار، يرى الباحث والخبير المتخصص في الشؤون التركية، عبدالمولى علي، أن استخدام تركيا لملف الطاقة في ليبيا كورقة ضغط سياسية ضمن علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي يُعد خيارًا واردًا ضمن استراتيجيات أنقرة الإقليمية، رغم عدم ضمان نتائجه.
وأوضح أن تركيا، رغم عدم كونها فاعلًا رئيسيًا في تصدير الطاقة الليبية إلى أوروبا بشكل مباشر في الوقت الحالي، فإن تحالفها البحري والطاقي مع حكومة طرابلس يمنحها موقعًا تفاوضيًا قويًا في ممرات الطاقة البحرية والتنقيب في مناطق متنازع عليها من قبل بعض الدول الأوروبية.
وقال عبدالمولى في حوار خاص لـ”نافذة الشرق” إن أنقرة قد تلجأ إلى التلويح بالتأثير في عقود الطاقة الليبية مع شركات أوروبية، أو في مشروعات البنية التحتية البحرية مثل الكابلات الكهربائية وخطوط الغاز المحتملة، كوسيلة غير مباشرة لموازنة الضغوط الأوروبية في ملفات عدة منها شرق المتوسط وقبرص وحقوق الإنسان والعلاقات الجمركية.
وأكد أن فعالية هذه الورقة مرهونة بعدة عوامل، أبرزها مدى استقرار الحكومة الليبية المتحالفة مع أنقرة وقدرتها على الالتزام بالاتفاقيات طويلة الأمد، بالإضافة إلى استعداد دول الاتحاد الأوروبي لتحمُّل المخاطر الجيوسياسية لتأمين بدائل للغاز الروسي.
أما عن السيناريوهات المحتملة إذا رفضت ليبيا الاستمرار في الاتفاق البحري أو طالبت بتعديله بشكل جذري، فيرى عبدالمولى أن هذا الخيار لا يزال بعيدًا في الوقت الراهن نظرًا لطبيعة التفاهمات الاستراتيجية بين أنقرة وطرابلس، لكنه لا يستبعد ظهور ضغوط داخلية أو إقليمية قد تدفع نحو مراجعة الاتفاق، خاصة إذا تغيرت موازين القوى السياسية أو تدخلت أطراف دولية مؤثرة.
وأشار الخبير في الشؤون التركية إلى أن أنقرة قد تلجأ في هذه الحالة إلى مجموعة من الأدوات لحماية مصالحها، منها توظيف نفوذها العسكري المباشر في غرب ليبيا، الذي يشمل قواعد ومستشارين عسكريين، إلى جانب أدوات الضغط السياسي والاقتصادي، كدعم فصائل مقربة أو التلويح بتجميد مشروعات حيوية في مجالات البنية التحتية والطاقة.
في سيناريو أقل حدة، يتوقع أن تركيا تفضل إعادة التفاوض “التكتيكية” بدلًا من “الاستراتيجية”، عبر تقديم تعديلات شكلية أو تنازلات رمزية تُبقي على جوهر الاتفاق، ما يمنح حكومة طرابلس هامشًا لمواجهة الضغوط دون تفكيك التفاهم الأساسي.
ويتوقع عبدالمولى أن أنقرة ستعزز وجودها البحري والعسكري ضمن استراتيجية أوسع تتداخل فيها مصالح الطاقة مع التوازنات الجيوسياسية، فمياه المتوسط تمثل مجالًا حيويًا لا يمكن التفريط فيه، خاصةً أن أنقرة قد لجأت سابقًا إلى استخدام أدوات “القوة الخشنة” بإرسال سفن تنقيب تحت حماية بحرية إلى مناطق متنازع عليها، خصوصًا قرب السواحل القبرصية.
وأضاف أن أنقرة قد تكثف الدوريات البحرية، وتوسع حضورها في القواعد الليبية، وتنفذ مناورات مشتركة مع دول صديقة، بالتوازي مع محاولة منح هذا التوسع غطاء قانونيًا عبر تمديد الاتفاقات الأمنية مع طرابلس، أو إبرام تفاهمات مماثلة مع دول شمال إفريقيا، موضحًا أن هذه الخطوات تحمل مخاطر تصعيد مع قوى أوروبية أو إقليمية، ما قد يدفع تركيا لاعتماد سياسة “الردع المرن” لتجنب مواجهة مفتوحة، خاصة في ظل حساسيات علاقاتها مع الناتو والاتحاد الأوروبي.
أما على صعيد العلاقات الإقليمية، فيشير عبدالمولى إلى تعقيد وتذبذب العلاقات التركية مع دول مثل مصر وإسرائيل، بسبب تعدد الملفات المتداخلة. فبينما تؤجج المنافسة على خطوط الطاقة ومناطق النفوذ البحري التوترات، تدفع المصالح الاقتصادية والسياسية أحيانًا نحو التهدئة والانخراط في مسارات دبلوماسية متقطعة.
بالنسبة لمصر، يشكل اتفاق تركيا مع حكومة طرابلس تهديدًا لترسيم الحدود البحرية بين القاهرة وأثينا، وقد أثار قلق صناع القرار المصري في مراحل سابقة. ومع ذلك، فإن بعض المؤشرات على محاولات تطبيع العلاقات بين أنقرة والقاهرة تفتح الباب لحوار محتمل حول ترتيبات أكثر توافقًا في شرق المتوسط.
أما العلاقة مع إسرائيل، فتتسم بالبراغماتية، وتشهد فترات من التقارب والجمود. تشكل المصالح المشتركة في مجالات التكنولوجيا والطاقة أساسًا لتخفيف التوترات، إلا أن ارتباط إسرائيل بتحالفات، مثل منتدى غاز شرق المتوسط الذي يستبعد تركيا، يحد من فرص التعاون الشامل.
ويخلص عبدالمولى إلى أن استمرار الصراع في شرق المتوسط يعمق الاستقطاب، لكنه لا يمنع إمكانات إعادة التموقع أو صياغة تفاهمات مؤقتة في حال تغيرت أولويات الدول المعنية أو استجدت ظروف إقليمية ضاغطة.