كتب: … إسلام ماجد
في ضربة جديدة لموسكو على جبهة الطاقة، تواجه روسيا تحدياً غير مسبوق بعد تكثيف أوكرانيا لهجماتها بالطائرات المسيّرة على الموانئ النفطية والمصافي، وهو ما يهدد شريان الحياة الاقتصادية للكرملين. فشركة ترانس نفط، المشغلة لأكثر من 80% من النفط المستخرج في البلاد، حذرت المنتجين من احتمال اضطرارها إلى تقليص الكميات المستلمة وضخها عبر شبكة الأنابيب، في وقت تصر فيه موسكو على أن هذه الأنباء “مفبركة” وتهدف لزعزعة صورتها.
حرب في السماء.. وارتباك على الأرض
منذ أغسطس الماضي، صعّدت كييف بشكل ملحوظ من هجماتها الجوية ضد البنية التحتية للطاقة الروسية. والنتيجة: ضربات متتالية عطّلت ما لا يقل عن عشرة مصافٍ، وألحقت أضرارًا بموانئ استراتيجية على بحر البلطيق مثل “أوست-لوغا” و”بريمورسك”.
ووفق مصادر في الصناعة ومسؤولين عسكريين أوكرانيين، فقد تراجع إنتاج التكرير الروسي في إحدى المراحل بما يقارب الخُمس، وهو انخفاض ضخم لدولة تعتمد بشكل جوهري على عائدات الطاقة، إذ تمثل بين ثلث ونصف الميزانية الفيدرالية.
لكن السلطات الروسية لم تعترف علنًا بحجم الضرر، مفضلة سياسة الغموض. في المقابل، أكدت “ترانس نفط” في بيانها أن الأخبار حول تقليص الإنتاج “كاذبة” وتأتي في إطار “حرب معلوماتية غربية”، في محاولة واضحة لتطمين الداخل وإرسال رسائل للخارج.
“العقوبات الأسرع”
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لم يتردد في استثمار الضربات سياسيًا، إذ وصف استهداف المنشآت النفطية الروسية بأنه “العقوبات التي تعمل بأسرع وقت”، مشددًا على أن هذا المسار أكثر فاعلية من العقوبات الغربية التقليدية التي وجدت موسكو طرقًا للالتفاف عليها.
فمنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات متتالية على قطاع الطاقة الروسي. غير أن روسيا نجحت في إعادة توجيه معظم صادراتها إلى آسيا، حيث استحوذت كل من الهند والصين على النصيب الأكبر من الخام الروسي بأسعار مخفضة.
لكن استهداف ميناء “بريمورسك” الأسبوع الماضي كان نقطة تحول لافتة. فهذا الميناء وحده قادر على تصدير أكثر من مليون برميل يوميًا – أي ما يعادل أكثر من 10% من إجمالي إنتاج روسيا. توقفه المؤقت هزّ أسواق الطاقة وأثار تساؤلات حول قدرة موسكو على الصمود إذا استمرت الضربات بوتيرة متصاعدة.
تحديات التخزين والقدرة المحدودة
تختلف روسيا في بنيتها النفطية عن السعودية – أكبر منتج في “أوبك” – إذ لا تملك قدرات تخزين واسعة تمكّنها من امتصاص الصدمات. وهو ما أكده بنك “جي بي مورغان” حين أشار في مذكرة بحثية إلى أن قدرة موسكو على زيادة إنتاجها مهددة بسبب محدودية المخزونات.
الأمر نفسه حذرت منه مؤسسة “غولدمان ساكس”، موضحة أن تعطل المصافي سيؤدي إلى ازدحام في تخزين الخام، ما سيضغط أكثر على مستويات الإنتاج. ورغم ذلك، رجّحت المؤسستان أن يكون التراجع في الإنتاج “محدودًا”، نظرًا لاستمرار الطلب الآسيوي القوي على النفط الروسي.
المفارقة أن هذه التطورات تأتي في وقت تسعى فيه روسيا، بالتعاون مع منظمة “أوبك” في إطار تحالف “أوبك+”، إلى زيادة الإنتاج بعد سنوات من التخفيضات الهادفة لدعم السوق. ووفق الاتفاق الأخير، من المفترض أن يرتفع سقف إنتاج موسكو هذا الشهر إلى 9.449 مليون برميل يوميًا، مقارنة بـ9.344 مليون برميل يوميًا في أغسطس.
بين الدعاية والحقيقة
تصر “ترانس نفط” على أن الأنباء المتعلقة بخفض الإنتاج مجرد “فبركات إعلامية”. غير أن تصريحات المصادر الصناعية الثلاثة التي نقلت عنها “رويترز”، والذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم، تكشف أن المخاوف حقيقية وأن الضربات الجوية تركت بالفعل ندوبًا عميقة في جسد قطاع الطاقة الروسي.
ويبدو أن موسكو عالقة بين خيارين أحلاهما مر: إما الاعتراف بالضرر بما قد يعني اعترافًا بالضعف أمام أوكرانيا والغرب، أو الاستمرار في سياسة الإنكار، وهو ما قد يفقدها ثقة الأسواق والمستثمرين على المدى الطويل.
سيناريوهات المستقبل
الهجمات الأوكرانية على منشآت النفط الروسية ليست مجرد تكتيك عسكري، بل أداة استراتيجية قد تغيّر قواعد اللعبة. فإذا استمرت بوتيرة متصاعدة، فقد تجبر روسيا على تقليص إنتاجها وتصديرها، ما سيؤثر على توازن سوق النفط العالمي.
وفي حال تحقق ذلك، ستجد موسكو نفسها مضطرة للاختيار بين تخصيص شحناتها المحدودة إلى المشترين الآسيويين الرئيسيين أو محاولة استعادة موطئ قدم في الأسواق الأوروبية رغم القيود.
وفي المقابل، يدرك الغرب أن استمرار هذه الضربات قد يكون بديلًا فعّالًا عن العقوبات البطيئة المفعول. ولذلك وصفها زيلينسكي بـ”العقوبات الأسرع”.
خبير: ضربات أوكرانيا للمنشآت النفطية الروسية تنقل الحرب إلى قلب الاقتصاد وتضغط على الكرملين
وفي سياق متصل، أكد الدكتور خالد محمود، رئيس قسم الإعلام بمعهد الدوحة والباحث المتخصص في السياسة السيبرانية، في تصريحات خاصة لـ”نافذة الشرق”، أن استهداف أوكرانيا للمصافي والموانئ النفطية الروسية يمثل تصعيداً نوعياً في الحرب، فهو ينقل الصراع إلى قلب المنظومة الاقتصادية التي تموّل المجهود العسكري الروسي. وأوضح أن ضرب منشآت مثل ميناء بريمورسك – الذي يصدّر أكثر من مليون برميل يومياً أي ما يزيد على 10٪ من إجمالي إنتاج روسيا – أدى إلى توقف عمليات التصدير بشكل مؤقت وأجبر موسكو على إعادة توجيه الشحنات وتعليق بعض الجداول. كما أن شركة “ترانس نفط” المحتكرة لخطوط الأنابيب حذّرت المنتجين من احتمال اضطرارهم لخفض الإنتاج إذا استمرت الهجمات وتعذّر تخزين الخام، وهو سيناريو غير مسبوق منذ اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية.
وأضاف محمود أن قطاع الطاقة يشكل العمود الفقري لاقتصاد روسيا، حيث تغطي عائداته ما بين ثلث إلى نصف إيرادات الميزانية الفيدرالية. وأشار إلى أن تعطيل الموانئ والمصافي يضغط على قدرة موسكو على جني عوائد التصدير، ويجبرها على تقديم خصومات أكبر لمشترين مثل الهند والصين لتصريف الفائض. ورغم نجاح روسيا في التكيف مع العقوبات وإيجاد مسارات بديلة للتصدير، إلا أن تكرار الضربات واستنزاف موارد الإصلاح والصيانة يزيد الكلفة المالية ويحد من تدفق الإيرادات المخصصة لدعم العمليات العسكرية على الجبهات.
وأوضح الباحث أن الأسواق العالمية شديدة الحساسية تجاه مثل هذه الضربات، فتعطّل الموانئ والمصافي يولّد موجات صدمة تؤدي إلى ارتفاع الأسعار فوراً بسبب المخاوف من نقص المعروض، حتى قبل اتضاح حجم الضرر الفعلي. وأكد أن التأثير يكون أكبر على المنتجات المكررة مثل الديزل ووقود الطائرات وزيت التدفئة، وهي منتجات حيوية للصناعات والنقل والمواسم الباردة. وقال إن أوروبا ستكون الأكثر عرضة للتأثر نتيجة اعتمادها على المنتجات المكررة الروسية، خاصة مع المنافسة المتزايدة على الإمدادات القادمة من الشرق الأوسط إلى الأسواق الآسيوية.
وتابع: “هذا الوضع يرفع حالة عدم اليقين في الأسواق، ويجعل الحكومات والشركات تتحرك لتعزيز مخزوناتها الاستراتيجية، ما يخلق طلباً إضافياً ويفاقم تقلبات الأسعار. ومع اقتراب الشتاء، يمكن أن تتحول أي انقطاعات إضافية في الموانئ أو المصافي إلى أزمة إمدادات حقيقية، تدفع الأسعار إلى مستويات قياسية وتؤثر على معدلات التضخم في العديد من الدول”.
وشدد محمود على أن الاستراتيجية الغربية اليوم تقوم على الاستنزاف طويل المدى، من خلال الجمع بين العقوبات والضربات الأوكرانية. الهدف – بحسب قوله – هو جعل كلفة استمرار الحرب أعلى من كلفة البحث عن تسوية سياسية. وتوقع أن تظهر الضغوط في المدى القريب على شكل تنازلات تكتيكية مثل القبول بوقف إطلاق نار مؤقت، أو إعادة الانتشار في جبهات ذات تكلفة بشرية ومادية عالية، أو الدخول في مفاوضات محدودة لتبادل الأسرى وفتح ممرات إنسانية.
لكن التنازلات الاستراتيجية الكبرى، مثل الانسحاب من الأراضي المحتلة أو القبول بضمانات أمنية تتعارض مع خطاب الكرملين، يرى محمود أنها أقل احتمالاً في المدى المنظور، وأن تحقيقها يتطلب استمرار الضغط لفترة أطول وتآكل ملموس في الإيرادات النفطية، إلى جانب مؤشرات سخط داخلي واسع سواء عبر احتجاجات شعبية أو تململ في صفوف النخبة السياسية والاقتصادية.
واختتم الخبير بالقول إن الضغط الخارجي من شركاء روسيا الاقتصاديين قد يكون حاسماً، مضيفاً: “إذا شعرت الصين والهند أن استمرار الحرب يهدد استقرار أسواق الطاقة ويضر بمصالحهما التجارية، فقد تضغطان على موسكو لتبني مقاربة تفاوضية أكثر مرونة. مثل هذه الضغوط الخارجية، إذا ترافقت مع الضغوط الاقتصادية والعسكرية الداخلية، يمكن أن تدفع القيادة الروسية لمراجعة حساباتها الاستراتيجية والبحث عن تسوية تحفظ ماء الوجه وتخفف وطأة العقوبات”.