عبد الرحمن السيد
في تطور جديد يعكس تعقيدات المشهد الفلسطيني بعد أكثر من ثمانية أشهر من الحرب الضارية في قطاع غزة، وجّه الرئيس الفلسطيني محمود عباس رسالة حادة وواضحة إلى المجتمع الدولي، دعا فيها حركة “حماس” إلى التخلي عن حكم قطاع غزة ونزع سلاحها، في خطوة يراها كثيرون اختبارًا حاسمًا لوحدة النظام السياسي الفلسطيني وقدرة السلطة الوطنية على استعادة ولايتها على كامل الأراضي الفلسطينية.
دعوة صريحة أمام المجتمع الدولي
في رسائل رسمية وجّهها إلى كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أعرب الرئيس محمود عباس عن تأييده لتفكيك سلطة حماس في غزة، واعتبر أن الحركة “استولت على القطاع بالقوة من خلال انقلابها على الشرعية الفلسطينية عام 2007″، مؤكدًا أن إنهاء هذا الوضع هو شرط أساسي لبناء دولة فلسطينية مستقبلية، ولإعادة إعمار غزة ضمن رؤية متكاملة للسلام.
فتح: لا شرعية إلا للسلطة
عبد الفتاح الدولة، المتحدث باسم حركة فتح، قال في تصريحات خاصة لـ”نافذة الشرق” إن رسالة عباس تؤكد على الموقف الفلسطيني الثابت بأن السلطة الوطنية هي الجهة الشرعية الوحيدة المخولة بالإدارة والسيادة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، باعتبارها الذراع التنفيذي لمنظمة التحرير، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
وأضاف: “هذه ليست دعوة جديدة، بل تأكيد على موقف وطني ثابت يدعو إلى وحدة النظام والسلاح والقانون تحت مظلة الشرعية، بعيدًا عن سلطات الأمر الواقع التي تضر بالقضية وتضعف موقفنا أمام الاحتلال”.
وأكد أن السلطة تملك الخبرات والكفاءات التي تؤهلها لإدارة غزة أمنيًا وإداريًا، مشيرًا إلى أن الانقسام الناتج عن سيطرة حماس أضر بوحدة الصف الفلسطيني، وكان ورقة استغلها نتنياهو لتعميق الانقسام وعرقلة قيام الدولة الفلسطينية.
حماس ترفض.. والمقاومة خط أحمر
في المقابل، جاء رد حماس سريعًا وحاسمًا. فقد رفضت الحركة على لسان مسؤولين فيها أي دعوة لنزع سلاح المقاومة أو التخلي عن إدارة غزة، مؤكدة أن “سلاح المقاومة هو حياة الشعب الفلسطيني ولا يمكن التفريط به تحت أي ظرف”.
القيادي في حماس محمود مرداوي قال إن “هذا الطرح مرفوض جملة وتفصيلًا، وهو إسرائيلي بحت”، نافياً أن يكون المقترح قد جاء من الجانب المصري، ومضيفًا أن “الدخول في نقاش حول هذا البند هو انزلاق مرفوض”.
كما صرّح عضو المكتب السياسي باسم نعيم أن “المقاومة باقية طالما بقي الاحتلال، والحديث عن صفقات جزئية مقابل الغذاء والماء لم يعد مقبولًا”، مشيرًا إلى أن الحركة مستعدة للتفاوض ضمن صفقة شاملة تشمل وقفًا دائمًا لإطلاق النار، وانسحاب القوات الإسرائيلية، وفتح المعابر، وإعادة الإعمار، وتبادل الأسرى.
موقف دولي يتشدد: لا مستقبل لحماس المسلحة
في موازاة هذه المواقف، أكد المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف أن أي حل طويل الأمد في غزة لا بد أن يتضمن نزع سلاح حماس بالكامل، مضيفًا في تصريحات لمجلة “ذا أتلانتيك” أن “استمرار وجود حماس المسلحة في غزة أمر غير مقبول”، وأن نزع سلاحها شرط أساسي لأي تسوية سياسية مستدامة.
هذا التصريح يتقاطع مع مواقف أوروبية وإقليمية تشدد على ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني، وإعادة توحيد المؤسسات تحت مظلة السلطة، لضمان استقرار غزة ومنع عودة العنف.
قراءة استراتيجية: هل تنضج اللحظة؟
اللواء سمير فرج، الخبير الاستراتيجي، يرى أن هذه المسألة تخص الداخل الفلسطيني، قائلًا لـ”نافذة الشرق”: “هذا قرار يعود إلى حماس وفتح، ولسنا طرفًا فيه. لكن في تقديري من الصعب أن تتخلى حماس عن سلاحها بهذه البساطة، لأنه يمثل بالنسبة لها عنصر وجود وتأثير”.
ويشير فرج إلى أن أي حل يجب أن يكون ضمن تسوية إقليمية شاملة، تتضمن ضمانات للأمن، وخطة واضحة لإعادة الإعمار، وبرنامج سياسي يُنهي الاحتلال فعليًا، لا مجرد ترتيبات مؤقتة.
خيارات ما بعد الحرب.. ومصير غزة
مع اقتراب موعد المؤتمر الدولي الذي دعت له الأمم المتحدة بين 17 و21 يونيو الجاري، تطرح رسالة عباس ومعها المواقف المتباينة من حماس والمجتمع الدولي سؤالًا مركزيًا: هل باتت اللحظة ناضجة لإنهاء حقبة الانقسام الفلسطيني، أم أننا أمام فصل جديد من التعقيدات السياسية؟
يرى مراقبون أن الحرب التي دمّرت معظم قطاع غزة، وأسقطت آلاف الشهداء والجرحى، قد تُشكّل فرصة أخيرة لإعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني، إذا ما وُجدت الإرادة السياسية، والدعم العربي والدولي، والإجماع الوطني.
لكن في ظل تمسك حماس بالسلاح والإدارة، وتردد المجتمع الدولي في فرض حلول جذرية، قد تبقى غزة رهينة بين مشروعين: أحدهما يسعى لتكريس الانقسام تحت عنوان “المقاومة”، وآخر يراهن على الشرعية الدولية، وإعادة بناء البيت الفلسطيني من جديد.
ومع اقتراب موعد المؤتمر، تبقى الكرة في ملعب القيادات الفلسطينية، بين من يرفع الصوت لاستعادة الوحدة، ومن لا يزال يتشبث بالسلطة، ولو على أنقاض غزة.
تجاذبات داخلية واستحقاقات خارجية
يرى محللون أن موقف عباس لا ينفصل عن الضغوط الدولية المتزايدة لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، تمهيدًا لمشاركة أوسع في جهود إعادة إعمار غزة، وربما إطلاق عملية سياسية جديدة. كما يأتي في وقت تُكثّف فيه واشنطن وتل أبيب جهودهما لتشكيل “اليوم التالي لغزة”، وسط رفض حماس لأي هندسة خارجية لمستقبل القطاع، ما يضع الملف الفلسطيني أمام مفترق حاد بين إعادة التوحيد أو تثبيت الانقسام بحكم الواقع.
سيناريوهات ما بعد القمة الأممية
مع اقتراب قمة الأمم المتحدة الخاصة بغزة، تزداد الترجيحات بأن يضغط المجتمع الدولي لتمكين السلطة الفلسطينية كمدخل لأي ترتيبات سياسية أو اقتصادية في القطاع، بما يشمل إدخال المساعدات والإشراف على إعادة الإعمار. لكن دون توافق وطني حقيقي، وإعادة بناء الثقة بين الأطراف الفلسطينية، تبقى كل هذه السيناريوهات رهينة للاشتباك السياسي والميداني القائم، وربما تُنذر بتجدد الصراع بدلًا من إنهائه.