كتبت: هدير البحيري
شهدت تركيا مؤخرًا تطورًا استراتيجيًا لافتًا في مساعيها لتحقيق الاستقلال الطاقي، مع عبور أول منصة تركية عائمة لإنتاج الغاز الطبيعي، “عثمان غازي”، مضيق البوسفور متجهة إلى البحر الأسود، حيث ستبدأ عمليات الإنتاج من حقل صقاريا، أحد أكبر الاكتشافات في تاريخ البلاد.
يمثل هذا الحدث نقلة نوعية من مرحلة الاستكشاف إلى مرحلة الإنتاج الفعلي، ضمن خطة تركية طويلة الأمد تهدف إلى تعزيز أمن الطاقة، وتقليص الاعتماد على واردات الغاز من روسيا وإيران.
قدرات ضخمة وتطلعات طموحة
منصة “عثمان غازي”، التي صممت بأبعاد ضخمة (298.5 مترًا طولًا و56 مترًا عرضًا)، تضم تجهيزات متقدمة قادرة على معالجة نحو 10.5 ملايين متر مكعب من الغاز يوميًا، ويعمل عليها طاقم مكون من 140 متخصصًا.
وقد أُطلقت رحلتها رسميًا من أمام قصر دولمة بهتشة في إسطنبول، بحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير الطاقة ألب أرسلان بيراقتار، تزامنًا مع الذكرى 572 لفتح إسطنبول، في مشهد رمزي يعكس طموح أنقرة في التحول إلى لاعب إقليمي رئيسي في مجال الطاقة.
وستُربط المنصة بشبكة أنابيب بحرية بطول 161 كيلومترًا، تمتد إلى محطة توزيع ساحلية، تمهيدًا لضخ الغاز مباشرة إلى الشبكة الوطنية.
وتستهدف الخطة التشغيلية بدء الإنتاج منتصف عام 2026، بطاقة تصاعدية تصل إلى 20 مليون متر مكعب يوميًا، أي ما يكفي لتغطية احتياجات نحو 4 ملايين منزل.
خطط إنتاج تصاعدية حتى 2030
وفقًا لبيانات وزارة الطاقة، تطمح تركيا بحلول عام 2028 إلى مضاعفة الإنتاج اليومي إلى 40 مليون متر مكعب، على أن يغطي حقل صقاريا نحو 30% من الطلب المحلي على الغاز بحلول عام 2030، مقارنةً بنسبة 15% متوقعة في 2026. غير أن هذه الأهداف الطموحة تصطدم بتحديات تقنية ومالية معقدة، خاصة في ظل بيئة بحرية شديدة الحساسية.
تمويل معقّد وضغوط اقتصادية
في حديث خاص لـ”نافذة الشرق”، قال شعبان عبدالفتاح، الباحث في الشأن التركي والدولي، إن تقلبات أسعار الصرف والفائدة تمثل أحد أبرز التحديات أمام المشروع، مشيرًا إلى أن “جزءًا كبيرًا من تمويل البنية التحتية يُدار بالدولار أو اليورو، في حين تُدفع معظم النفقات التشغيلية بالليرة التركية”.
وأضاف عبدالفتاح أن “ارتفاع الفائدة يزيد كلفة التمويل، في حين أن تراجع الليرة يُضخم فاتورة الواردات التقنية، ويضغط على الميزانية التشغيلية للمشروع”.
لكنه في المقابل، يشير إلى أن الحكومة التركية تراهن على عائدات المشروع بالعملات الصعبة لتخفيف هذه الضغوط، ما يجعل المشروع استراتيجيًا أكثر منه تجاريًا بحتًا في الأمد القصير.
وعن التكلفة الإجمالية، أوضح عبدالفتاح أنه لا توجد بيانات رسمية معلنة، إلا أن تقديرات غير رسمية تشير إلى أن تكلفة “عثمان غازي” قد تتجاوز 10 إلى 12 مليار دولار، وتشمل تطوير الحقول، البنية التحتية البحرية، وخطوط النقل البرية.
مصادر التمويل والسيادة الوطنية
ويرجح عبدالفتاح أن تمويل المشروع سيعتمد على مزيج من ميزانية الحكومة التركية عبر شركة الطاقة الوطنية (TPAO)، قروض سيادية أو من بنوك آسيوية ودول حليفة مثل قطر وروسيا، بالإضافة إلى شراكات محتملة مع شركات طاقة أجنبية، خصوصًا إذا تم رفع السرية جزئيًا عن بعض مراحل التطوير.
وأشار عبدالفتاح إلى أن رغم التكلفة العالية للتمويل المحلي، تُفضل الحكومة التركية تجنب الاقتراض الخارجي المباشر، في محاولة للحفاظ على السيطرة السيادية على المشروع.
السيناريوهات المستقبلية: بين الطموح والفشل
ويرى عبدالفتاح، أن إخفاق مشروع “عثمان غازي” في تحقيق أهدافه المعلنة – وفي مقدمتها الوصول إلى إنتاج يتجاوز 10 مليارات متر مكعب سنويًا بحلول عام 2028 – قد يؤدي إلى سلسلة من التداعيات السلبية على عدة مستويات.
فعلى المستوى الاقتصادي، من المرجح أن يتسبب هذا الإخفاق في تآكل ثقة السوق والمستثمرين، الأمر الذي قد ينعكس مباشرة على وتيرة الاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة التركي، بل وعلى مناخ الاستثمار العام في البلاد. كما سيعني استمرار الاعتماد على واردات الغاز بأسعار مرتفعة، ما يفاقم من عجز الحساب الجاري ويزيد الضغوط على الميزانية العامة.
وعلى المستوى الداخلي، يُحتمل أن تلجأ الحكومة إلى تحميل جزء من التكاليف على المواطنين، من خلال رفع أسعار الطاقة محليًا، في ظل صعوبة تعويض الفجوة بالإنتاج المحلي. هذا الأمر قد يخلق حالة من الغضب الشعبي، ويمنح المعارضة فرصة للتشكيك في جدوى المشروع ككل، واستخدامه كورقة سياسية ضد الحكومة، خاصة في الفترات الانتخابية.
في المقابل، يشير عبدالفتاح إلى أن السيناريو الأفضل لا يشترط بلوغ الأهداف القصوى للمشروع. فحتى في حال تحقيق اكتفاء جزئي، دون الوصول إلى إنتاج 10 مليارات متر مكعب، يمكن أن يسهم المشروع في تحقيق توازن استراتيجي في واردات الطاقة التركية، ويُستخدم كأداة ضغط جيوسياسية في العلاقات مع روسيا والاتحاد الأوروبي، ما يعزز من موقع تركيا التفاوضي في ملفات إقليمية متعددة.
انعكاسات جيوسياسية محتملة
يحذر عبدالفتاح من أن نجاح “عثمان غازي” قد لا يُقابل بالترحيب إقليميًا، بل قد يثير توترات متزايدة في منطقة البحر الأسود، حيث تتشابك مصالح قوى كبرى مثل روسيا، أوكرانيا، رومانيا وبلغاريا.
ويضيف: “تقليص الاعتماد التركي على الغاز الروسي والإيراني قد يُفسر من بعض الفاعلين كمزاحمة إستراتيجية. كما أن أي توسع تركي لاحق في شرق المتوسط، مدفوع بنجاح هذا المشروع، قد يُعيد إحياء النزاعات البحرية القديمة مع اليونان وقبرص.”
تركيا والطموح نحو التصدير
تسعى أنقرة إلى تحقيق فائض في إنتاج الغاز وتحويله إلى مورد للتصدير، خاصة نحو أوروبا، التي لا تزال تبحث عن بدائل موثوقة للغاز الروسي بعد حرب أوكرانيا. ويعزز من هذا الطموح موقع تركيا الجغرافي ومشاركتها في “الممر الجنوبي” الذي ينقل الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا.
وكان السفير التركي لدى الاتحاد الأوروبي قد أعلن عن إمكانية توسيع هذا الممر ليشمل الغاز التركي المستخرج من البحرين الأسود والمتوسط، ما قد يمنح أنقرة دورًا متقدمًا في معادلة أمن الطاقة الأوروبية.