عودة الجنرال مناف طلاس إلى الواجهة: خطوة رمزية أم تمهيد لتسوية دولية في سوريا؟

كتبت: هدير محمد

بعد عقدٍ أو أكثر من الصمت والابتعاد عن المشهد السوري، عاد اسم العميد المنشق مناف مصطفى طلاس إلى الواجهة عبر محاضرة ألقاها في باريس بحضور دبلوماسيين أوروبيين ومهتمين بالشأن السوري. عودة شخصية عسكرية من الصف الأول، ارتبطت لعقود بعائلة الأسد ثم انشقت في اللحظة الحرجة عام 2012، تثير تساؤلات عديدة لماذا الآن؟ وما دلالات ظهوره من باريس؟ وهل تعكس هذه العودة مجرد خطوة رمزية أم مقدمة لترتيبات دولية تخص مستقبل سوريا؟

خلفيات شخصية وعائلية

ينحدر مناف طلاس من عائلة عسكرية ذات ثقل في تاريخ النظام السوري؛ فوالده مصطفى طلاس شغل منصب وزير الدفاع لأكثر من ثلاثة عقود وكان أحد أعمدة حكم حافظ الأسد. أما مناف نفسه فقد تدرج في صفوف الحرس الجمهوري ليصبح عميدًا وقائدًا للواء 104، ما وضعه في قلب دائرة السلطة العسكرية.

علاقاته الوثيقة مع باسل الأسد في التسعينيات، ثم قربه من بشار بعد توليه الحكم، جعلت منه شخصية وازنة داخل النظام، لكن انشقاقه عام 2012 شكّل ضربة رمزية كبرى لبشار، إذ مثّل أول انقسام علني من داخل الدائرة العسكرية الضيقة.

عودة طلاس.. لماذا الأن؟

تتزامن عودة مناف طلاس، مع حراك دولي متجدد حول الملف السوري، خصوصًا في ظل الجمود العسكري واستحالة الحسم، مقابل بروز سيناريوهات لتسوية سياسية شاملة. فالغرب يسعى لإيجاد شخصيات مقبولة يمكن أن تلعب دورًا في المرحلة الانتقالية، وربما وجد في طلاس مرشحًا محتملاً، أو على الأقل ورقة لطرحها على الطاولة.

من زاوية أخرى، فإن الظهور من باريس، يضفي على رسالته بعدًا أوروبيًا صرفًا، ويعكس رغبة فرنسية خاصة في إعادة إدخاله إلى المشهد، وربما اختباره كورقة بديلة أو مكملة لخيارات أخرى.

وفي هذا الصدد، قال محمود محمدي، الباحث في الشؤون السياسية، في تصريحات خاصة لـ”نافذة الشرق” إن الجدل المثار حول ظهور العميد المنشق مناف طلاس في فرنسا يعود إلى تزامن ذلك مع مشاركة الرئيس السوري الحالي أحمد الشرع في أعمال الدورة الـ48 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث يُنتظر أن يوجّه الشرع كلمة من على منبر المنظمة الدولية تستحوذ على اهتمام العالم. وأوضح محمدي أن طلاس لم يعد يحظى اليوم بالشعبية التي رافقت ظهوره في بدايات الثورة السورية عامي 2011 و2012، مشيراً إلى أن إطلالته من باريس قد لا تحظى بقبول شعبي واسع، بالنظر إلى انقطاعه الطويل عن المشهد السياسي السوري في ظل استمرار حكم بشار الأسد.

طلاس بين الوساطة والدور المحتمل في التسوية

وفيما يتعلق بالدور الذي قد يلعبه مناف طلاس في أي تسوية سياسية مقبلة، قال الباحث محمود محمدي لـ”نافذة الشرق”، إن العميد المنشق لم يعد يُنظر إليه فقط كعسكري، بل تحول خلال سنواته الأخيرة في سوريا إلى شخصية ذات طابع دبلوماسي، امتلكت القدرة على التوسط وإدارة الخلافات. وأشار محمدي إلى أن بشار الأسد نفسه كان قد أوكل لطلاس مهمة حل النزاعات في عدد من المناطق المشتعلة، مستفيداً من قبول الوجهاء وشيوخ العشائر له، لكن تلك المكانة سرعان ما أثارت مخاوف الدائرة الضيقة المحيطة بالأسد من تنامي نفوذه.

وأضاف محمدي أن إعادة تقديم طلاس كقائد عسكري أمر غير مستبعد، خصوصاً في ظل إعلان الرئيس أحمد الشرع فتح الباب أمام المصالحة الوطنية مع مختلف أطياف المعارضة. إلا أن الاحتمال الأرجح – وفق تقديره – أن يظهر طلاس كلاعب سياسي وسيط بين الحكومة السورية وزعامات العشائر، ولا سيما في بؤر التوتر مثل السويداء وأزمة الدروز المتفاقمة.

قوة بلا سلاح

يرى محمدي أن مناف طلاس لا يمتلك في الوقت الراهن أي قوة فعلية على الأرض داخل سوريا، إذا ما كان المقصود من القوة هو القدرة على تحريك تشكيلات عسكرية لمواجهة الجيش السوري أو أجهزة الأمن. غير أن ما يملكه طلاس – بحسب محمدي – يتمثل في قدرته على إدارة الأزمات والقيام بدور الوسيط بين الأطراف المتصارعة، وهو الدور الذي تبدو سوريا في أمسّ الحاجة إليه في المرحلة الراهنة.

باريس منصة الرسائل

اختيار باريس مكانًا لظهور طلاس لم يكن اعتباطيًا. ففرنسا كانت دائمًا معنية بالملف السوري ولها روابط تاريخية مع دمشق، إضافة إلى علاقاتها القوية مع المعارضة السياسية التقليدية.
حضور دبلوماسيين أوروبيين لمحاضرته يرسل إشارات مزدوجة:
أولاً: أن الغرب لم يغلق الباب أمام إعادة تدوير بعض رموز النظام السابق.

ثانيًا: أن هناك اختبارًا للرأي العام السوري وللمعارضة لمعرفة مدى تقبّلها لمثل هذا الخيار.

بهذا المعنى، فإن باريس تتحول إلى منصة لإطلاق بالونات الاختبار المرتبطة بالتسوية المقبلة.

هل هناك صفقة دولية؟

من الطبيعي أن يُطرح التساؤل هل عودة طلاس مقدمة لصفقة دولية كبرى بشأن سوريا؟
حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات علنية على اتفاق نهائي بين القوى الكبرى حول مستقبل النظام السوري، لكن كل المعطيات توحي بأن ملف الأسد نفسه لم يعد مطروحًا للحل العسكري. القوى الغربية تبحث عن مخارج تحفظ ماء الوجه، فيما روسيا وإيران تتمسكان بالنظام كضامن لمصالحهما.
في هذه المعادلة، يمكن أن يكون طلاس ورقة وسطية؛ حيث لا يزال يحمل صلات بالنظام، وفي الوقت نفسه انشق مبكرًا وأعلن رفضه للعنف، ما قد يجعله مقبولاً – ولو مؤقتًا – في صيغة انتقالية.

علاقاته السابقة بالأسد: عبء أم رصيد؟

ارتبط مناف طلاس بعلاقة شخصية قوية مع باسل الأسد قبل وفاته، ثم مع بشار بعد توليه السلطة. هذه الروابط تجعل صورته في أذهان السوريين ملتبسة.

بالنسبة لبعض المعارضين، هو جزء أصيل من النظام شارك في دعمه حتى اللحظة التي انشق فيها. أما بالنسبة لآخرين، انشقاقه المبكر يجعله أصدق من أولئك الذين انتظروا سنوات قبل الانفصال عن النظام.

الغرب يدرك هذه الثنائية؛ فمن جهة يمكن أن يستفيد من قربه التاريخي من الأسد لطمأنة بعض النخب في دمشق، ومن جهة أخرى قد يعتبره جزءًا من الماضي يصعب إعادة تدويره شعبياً.

الغرب وإعادة التدوير: هل هو خيار مطروح؟

تجارب السنوات الماضية أظهرت أن الغرب لا يتردد في إعادة تدوير شخصيات ارتبطت بأنظمة سابقة إذا كان ذلك يخدم الاستقرار.

في حالة طلاس، يبقى السؤال هل ما زال قابلاً لإعادة التدوير كواجهة انتقالية؟ البعض يرى أن أوراقه احترقت بسبب طول غيابه وضعف حضوره الشعبي، فيما يرى آخرون أن غيابه الطويل قد يكون ميزة، إذ أبقاه بعيدًا عن التورط المباشر في الصراع الدموي، ما يجعله مقبولاً دولياً أكثر من غيره.

أوراق القوة المتبقية

رغم محدودية نفوذه العسكري، يمتلك طلاس بعض الأوراق:

  1. إرث عائلته العسكرية والسياسية، الذي يمنحه وزنًا في الذاكرة السورية.
  2. علاقاته الدولية، خصوصًا في فرنسا وبعض الدوائر الغربية.
  3. رمزية الانشقاق المبكر، التي لا تزال تُحسب له.

لكن هذه الأوراق تبقى ضعيفة إذا لم تُترجم إلى حضور فعلي داخل سوريا، سواء عبر بناء قاعدة شعبية أو تشكيل سياسي منظم.

الرسائل الأوروبية لروسيا وإيران

ظهور طلاس من باريس يحمل أيضًا بعدًا جيوسياسيًا. فالقوى الأوروبية تريد أن تقول لروسيا وإيران: لسنا مضطرين للتعامل مع الأسد فقط، هناك بدائل يمكن طرحها.

هذه الرسالة لا تعني أن الغرب مستعد للتخلي عن أي تسوية مع الأسد، لكنها ورقة ضغط تفاوضية تُستخدم لتذكير موسكو وطهران بأن النظام ليس الخيار الوحيد المتاح.

موقف المعارضة: بين الرفض والريبة

المعارضة السورية التقليدية لم تُبدِ حماسة لعودة مناف طلاس. والسبب أن كثيرين يرون فيه امتدادًا للنظام الذي قاتلوه، وأن ظهوره بعد غياب طويل لا يمنحه شرعية تمثيل الثورة.

بعض الفصائل تعتبره وجهاً مقبولاً غربياً لكنه بلا قاعدة شعبية، ما يجعله في أحسن الأحوال مجرد وسيط، لا قائدًا.

المعارضة المدنية أيضًا لا تثق كثيرًا في شخصيات ارتبطت بالنظام، وتخشى أن يُفرض عليها طلاس من الخارج كجزء من صفقة لا تعبّر عن تضحيات السوريين.

بالون اختبار لمستقبل التسوية؟

من الزاوية التحليلية، يبدو ظهور طلاس أقرب إلى بالون اختبار منه إلى إعلان رسمي لعودته إلى الحياة السياسية. الغرب يريد قياس ردود الفعل، وكيفية تعامل السوريون مع اسمه؟ هل سيتقبله الشارع كخيار ممكن؟ كيف سترد المعارضة؟ وماذا سيكون موقف روسيا وإيران؟ إذا جاءت الردود إيجابية أو حتى محايدة، فقد يتعزز حضوره تدريجيًا. أما إذا قوبل برفض واسع، فسيظل مجرد ورقة تُستخدم ثم تُحرق لاحقًا.

سيناريوهات محتملة لمستقبل مناف طلاس

  1. إعادة التدوير كواجهة انتقالية
    قد ينجح الغرب في تقديم طلاس كخيار توافقي في أي مرحلة انتقالية، بحكم خلفيته العسكرية وعلاقاته بالنظام من جهة، وانشقاقه المبكر من جهة أخرى. هذا السيناريو يتطلب قبولاً روسياً – إيرانيًا على مضض، وقبولًا داخليًا محدودًا لكنه مدعوم دولياً.
  2. ورقة ضغط سياسية مؤقتة
    قد يظل طلاس مجرد ورقة في يد الأوروبيين للضغط على النظام وحلفائه، دون أن يُمنح أي دور فعلي. في هذه الحالة، سيستمر ظهوره الإعلامي والمحاضرات، لكن دون ترجمة إلى نفوذ على الأرض.
  3. الاختفاء مجددًا
    إذا واجه طلاس رفضًا شعبيًا واسعًا ومعارضة قوية من الداخل والخارج، فمن المرجح أن يختفي اسمه مجددًا، ليعود إلى دائرة الظل، ويُستخدم اسمه فقط في أرشيف المحاولات غير المكتملة لتسوية الأزمة السورية