فاتورة الدم والنار في إسرائيل.. كم تتكلف الحرب مع إيران؟

كتبت: هدير البحيري

بدأت الحرب بين إيران وإسرائيل تغير وجه الحياة اليومية للإسرائيليين، إذ لم تعد المواجهة تدور في أطراف خارطة الصراع أو خلف الحدود، بل اقتحمت المدن، وطالت البيوت، وهددت استقرار الاقتصاد والحكومة معًا. وبين صافرات الإنذار وصور الدمار، تدفع تل أبيب ثمنًا باهظًا في مواجهة غير مسبوقة على الجبهة الداخلية.
ومنذ اللحظة الأولى للضربات الإيرانية، دخلت إسرائيل في حالة استنزاف مالي غير مسبوقة. وتقدر مصادر عسكرية أن تكلفة الحرب اليومية تتراوح بين 200 و725 مليون دولار، وفقًا لنوع العمليات واتساع نطاقها.
وتعد عمليات اعتراض الصواريخ الإيرانية من من أهم مجالات الإنفاق العسكري، إذ فعلت إسرائيل أنظمة دفاع جوي مثل “مقلاع داوود”، و”آرو 3″، إلى جانب “القبة الحديدية”، في مواجهة أكثر من 400 صاروخ إيراني خلال الأيام الأولى، بتكلفة تتراوح بين 700 ألف و4 ملايين دولار لكل عملية اعتراض، كما تقدر تكلفة الدفاع الجوي ليوم واحد فقط بنحو 200 مليون دولار، بحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية.
أما الهجمات الجوية التي تنفذها طائرات F-35 الإسرائيلية على الأراضي الإيرانية، فتضيف عبئًا ماليًا آخر، مع تكلفة تشغيل تقدر بـ10 آلاف دولار للساعة لكل طائرة، إلى جانب استخدام ذخائر ذكية مثل قنابل JDAM وMK84 مرتفعة الكلفة.
ووفقًا لتقديرات معهد “آرون” للسياسات الاقتصادية في إسرائيل، فإن استمرار الحرب لمدة شهر قد يكلف إسرائيل أكثر من 12 مليار دولار، ما يجعلها أغلى من كل الحروب السابقة في غزة أو جنوب لبنان.
ويؤكد الخبير الاقتصادي الإسرائيلي تسفي إكشتاين أن “الذخائر – الدفاعية والهجومية – تمثل العبء الأكبر في فاتورة الحرب”.
خلافًا لما اعتاد عليه الإسرائيليون في الحروب السابقة، باتت الجبهة الداخلية هي الهدف المباشر.
وأصبحت صافرات الإنذار مشهدًا يوميًا، وتعرضت مدن كبرى مثل تل أبيب وحيفا والقدس لضربات مباشرة. وقد تجاوزت الخسائر المادية المباشرة 570 مليون دولار خلال الأسبوع الأول فقط، وفقًا لهيئة ضريبة الأملاك في إسرائيل.
كما تلقى صندوق التعويضات في إسرائيل أكثر من 30 ألف مطالبة من إسرائيليين تضررت منازلهم أو سياراتهم أو ممتلكاتهم، كما تم إجلاء 10 آلاف إسرائيلي من منازلهم، وأُعلن عن تفعيل “آلية التعويض السريع” لصرف تعويضات فورية خلال 72 ساعة للمتضررين الذين لا تتجاوز قيمة خسائرهم 10 آلاف شيكل.
وتعرضت البنية التحتية الحيوية لضربات مباشرة، أبرزها توقف مؤقت لأكبر مصفاة نفط في إسرائيل، إلى جانب تعليق العمل في عدة قطاعات خدمية حساسة، ما يضاعف من الأعباء الاقتصادية. هذا التوقف لا يمثل فقط خسارة مادية، بل يرفع مستوى الهشاشة الاقتصادية في حال تصاعدت وتيرة الهجمات أو اتسعت رقعتها.
ونقلت وسائل إعلام إسرائيلية عن مدير الصندوق أمير دهان قوله: “ما نشهده اليوم يتجاوز كل ما تعاملنا معه سابقًا. لم نعد أمام نوافذ محطمة فقط، بل أمام أحياء بأكملها تحتاج إلى إعادة إعمار”.
وقدرت كلفة إعادة الإعمار المدني وحدها حتى الآن بأكثر من 400 مليون دولار، فضلاً عن إسكان آلاف النازحين مؤقتًا في فنادق ممولة من الدولة.
على الصعيد السياسي، نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في خطف أنظار الإسرائيليين إلى مزاعمه بشأن التهديد الإيراني، بعيداً عن الاحتجاجات العارمة التي كانت تطالب باستقالته.
وكانت المعارضة قبل أسابيع تطالب بعزله وتتهمه بالفساد، لكنها أوقفت احتجاجاتها الآن وأعلنت “تأييدًا مؤقتًا” للجهود العسكرية.
ومع ذلك، تبقى هذه اللحظة مشروطة بسقف زمني، إذ قد تنقلب الموازين مجددًا إذا استمرت الحرب طويلاً أو تضاعفت الخسائر المدنية، فرغم التماسك السياسي الظاهري، بدأت بوادر القلق تظهر في دوائر رجال الأعمال والمستثمرين، إذ يخشى كثيرون من تراجع الثقة بالاقتصاد، وتآكل الاحتياطي النقدي بسبب الإنفاق الدفاعي المتزايد.
وعبرت مصادر اقتصادية عن مخاوف من دخول إسرائيل في ركود إذا طال أمد الحرب، خاصة في ظل تراجع النشاط في قطاعات حساسة مثل السياحة والعقارات والخدمات.
ورغم أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لا يزال شخصية تثير انقسامًا واسعًا داخل المشهد السياسي الإسرائيلي، فإن الهجوم على إيران منحه، مؤقتًا، فرصة لإعادة ترتيب السردية السياسية بعد إخفاق 7 أكتوبر. فبينما كانت شعبيته قد تراجعت بشدة إثر هجوم حماس وتدهور الوضع في غزة، جاء ضرب المنشآت النووية الإيرانية ليرفع أسهمه مجددًا، ويؤجل محاكمته في قضايا الفساد.
وعززت الحرب على إيران شعبية حزب الليكود بزعامة نتنياهو، ويتبين من الاستطلاع الأسبوعي الذي نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، الجمعة، أنه في حال جرت انتخابات مبكرة للكنيست الآن، سيكون الليكود الحزب الأكبر ويتفوق، لأول مرة، على حزب جديد برئاسة رئيس الحكومة الأسبق نفتالي بينيت.
وأضافت الصحيفة أن تدمير البرنامج النووي الإيراني سيعزز شعبية نتنياهو بشكل كبير، بينما في حال سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى الإسرائيليين جراء إطلاق صواريخ إيرانية فإن شعبية نتنياهو ستتراجع.
وكان استطلاع للقناة 13 الإسرائيلية أظهر أن 64% من الإسرائيليين يرون أن نتنياهو جاد في إنهاء التهديد الإيراني، مقابل 28% فقط يعتقدون أن الحرب مدفوعة بأهداف سياسية أو انتخابية.
ويحذر مراقبون من أن ما يروج له على أنه نصر، قد لا يكون سوى مقدمة لحرب استنزاف مفتوحة، تضع إسرائيل أمام تحديات أكثر عمقًا وأطول مدى.
وحتى الآن، لا توجد مظاهرات شعبية ضد الحرب، لكن “الضغوط الصامتة” داخل مؤسسات الدولة ومراكز صنع القرار قد تتصاعد مع مرور الوقت.
وشهد الصراع بين إسرائيل وإيران تصعيدًا نوعيًا مع تدخل الولايات المتحدة المباشر، حيث أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فجر الأحد تنفيذ هجوم ناجح على ثلاث منشآت نووية إيرانية رئيسية (فوردو، نطنز، وأصفهان).
ووصف نتنياهو العملية بأنها “تاريخية” وأشاد بالدعم الأمريكي، بينما ردت إيران بإطلاق صواريخ وطائرات مسيرة على إسرائيل، في إطار أكبر مواجهة مباشرة بين الطرفين منذ سنوات.
ويقول خبير الشؤون الإسرائيلية محمد البحيري في حوار خاص لـ”نافذة الشرق”، إن الحديث عن تكلفة الحرب الإسرائيلية على إيران ينقسم إلى شقين، الأول هو ما تتكبده الدولة الإسرائيلية من خسائر، والثاني هو ما يتكبده الإسرائيليون من خسائر.
ويوضح البحيري ذلك قائلاً: “فيما يتعلق بما تتكبده الدولة الإسرائيلية من خسائر جراء الحرب على إيران، هناك الأرقام التي أشرتم إليها في السطور أعلاه فيما يتعلق بتكلفة الآلة الحربية، لا سيما على صعيد الدفاع، لكن هناك شق آخر يتعلق بتكلفة الهجمات نفسها، وهي رقم كبير بمليارات الدولارات، ولو كانت إسرائيل دولة طبيعية لتضررت كثيراً من ذلك، لكن الواقع الإسرائيلي الذي لا يشبه أي دولة أخرى في العالم، أنها على الرغم من اقتصادها القوي نسبياً، تعيش إسرائيل على المساعدات الضخمة بلا حدود، سواء من جانب الولايات المتحدة أو التبرعات اليهودية الواسعة التي يتم جمعها من اليهود الأثرياء المسيطرين على الكثير من المؤسسات والمفاصل الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي لا تهتم الدولة الإسرائيلية كثيراً بتكلفة حربها كدولة على إيران، لأنها تدرك أن التعويض قادم لا محالة من الأصدقاء في بلاد العم سام والأشقاء اليهود في مختلف أنحاء العالم”.
ويضيف خبير الشؤون الإسرائيلية: “الجزء الأهم في تكلفة الحرب مع إيران يقع في الواقع على عاتق الإسرائيليين، وهي تكلفة متنوعة ومتفاوتة الأثر والأهمية، فهناك من خسروا حياتهم جراء الصواريخ الإيرانية، والحديث هنا عن حصيلة القتلى الإسرائيليين والتي تفرض الدولة الإسرائيلية تعتيماً شديداً عليهم، حتى لا تفاقم الأضرار المعنوية بين الإسرائيليين من جهة، أو تضخم آثار الصواريخ الإيرانية بما يصب في صالح تعزيز المعنويات الإيرانية، يضاف إلى ذلك أن إسرائيل تسعى من كل ذلك إلى استعادة صورة القوة الرادعة التي فقدتها في هجوم السابع من أكتوبر 2023”.
ويتابع البحيري: “تفرض الدولة الإسرائيلية حظر نشر شامل على أي أخبار تتعلق بخسائر إسرائيل جراء الصواريخ الإيرانية، ووسائل الإعلام الإسرائيلية تعترف بذلك علناً، حتى أن الأخبار العادية التي تسمح بها الرقابة الإسرائيلية تتصف بالعمومية والمحدودية في التفاصيل، وتحرص وسائل الإعلام الإسرائيلية على كتابة شعار بارز على مثل هذه الأخبار وهو “سُمح بالنشر”، أي أن هذا هو ما سمحت الرقابة الإسرائيلية بنشره، ما يعني أن هناك الكثير مما لن يتم النشر عنه، على الأقل الآن”.
ويلفت البحيري إلى أن الخسائر في الأرواح ستترك أثراً كبيراً في المجتمع الإسرائيلي، فبعد أن كان الإسرائيليون يعرفون فئات ضحايا الحروب مع مصر، وضحايا الانتفاضة الفلسطينية، وضحايا حروب لبنان، وضحايا حرب غزة، وضحايا العمليات الاستشهادية التي يسمونها الإرهابية، سيعرف الإسرائيليون فئة جديدة تسمى بضحايا الحرب مع إيران.
ويشير خبير الشؤون الإسرائيلية كذلك إلى من تدمرت منازلهم جراء الصواريخ الإيرانية، وكذلك مالكي السيارات والمحلات وأصحاب الشركات، ولأن الدولة الإسرائيلية تعرف أثر ذلك جيداً، بدأ الحديث في إسرائيل عن حجم التعويضات التي ستصرفها الدولة لهؤلاء.
وفي سياق الحديث عن تكاليف الحرب، بحسب البحيري، ينبغي الالتفات إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي معطل بشكل شبه كامل، مع استمرار الحرب في غزة واستدعاء قوات الاحتياط، والدخول شبه الدائم إلى الملاجئ الآمنة خوفاً من الصواريخ الإيرانية، وهذا يعني ببساطة أن الأمر غير قابل للاستمرار على هذا النحو لفترة طويلة، ما دفع الإسرائيليين إلى بدء الحديث مع حلفائهم الأمريكيين بشأن ضرورة وضع نهاية للحرب مع إيران الآن.
ويقول محمد البحيري: “بالإضافة إلى كل ذلك، علينا ألا ننسى الأثر النفسي لصواريخ إيران، وهو أمر سيستمر طويلاً، لعل من أبرز ملامحه اضطرار إسرائيل إلى فتح مجالها الجوي أمام شركات الطيران لنقل الإسرائيليين الراغبين في مغادرة إسرائيل فوراً، بدءاً من الاثنين 23 يونيو الجاري، وليس غريباً أن تكشف وسائل الإعلام الإسرائيلية عن أن جميع مقاعد كل رحلات شركات الطيران المغادرة من إسرائيل محجوزة بالكامل لمدة شهر كامل مقبل، وهذا يعزز صورة إسرائيل غير الآمنة في العقلية الجمعية ليهود العالم، كما أنه يصب في صالح الهجرة العكسية من إسرائيل إلى الخارج، وهذا أمر مرعب لدولة قائمة أساساً على اجتذاب المهاجرين اليهود إليها من مختلف أنحاء العالم”.
ويختتم البحيري قائلاً: “لا يمكننا الحديث عن تكلفة حرب لم تنته بعد، ولا يمكننا الحديث كذلك في ظل هذا التعتيم الإسرائيلي على كل المعطيات، حتى وإن كانت الخسائر واضحة وبديهية في قطاعات السياحة والطيران والاستثمارات والبورصة والمصانع المتعطلة، فضلاً عن التداعيات التي ستؤثر حتماً على الصادرات والواردات الإسرائيلية بسبب ما كشفته إسرائيل من وجه قبيح أمام العالم كله، بشكل قد يدفع الكثير من الدول إلى عدم التعامل معهم”.