كتبت: هدير محمد
تطورات جديدة على الساحة الإفريقية، فبعد عقود من التوتر الدبلوماسي بين مصر وإثيوبيا، عادت القاهرة وأديس أبابا إلى دائرة المواجهة مرة أخرى، وهذه المرة ليست بسبب سد النهضة، بل على خلفية انتشار قوات مصرية في الصومال. يأتي هذا التطور في وقت تشهد فيه المنطقة توترات جيوسياسية متزايدة، مما يثير تساؤلات حول دوافع كل طرف وتداعيات هذه التحركات على الأمن الإقليمي.
مصر وإثيوبيا صراع النفوذ
كشفت وزارة الدفاع الصومالية في بيان رسمي عن وجود ترتيبات لنشر قوات مصرية في الصومال، وذلك ضمن بعثة (أوصوم)، وهي بعثة الاتحاد الإفريقي لدعم الاستقرار في الصومال. وأوضح البيان أن هذه القوات ستعمل ضمن بعثة لحفظ السلام وتقديم الدعم للجيش الصومالي في مواجهة الجماعات المتطرفة. وعلى الرغم من أن القرار يبدو للوهلة الأولى تعاونًا عسكريًا طبيعيًا، إلا أنه أثار حفيظة إثيوبيا، التي عبرت عن رفضها الشديد لهذه الخطوة.
ووصف السفير الإثيوبي في الصومال هذه التحركات بأنها “تهديد استراتيجي مباشر للمصالح البحرية الإثيوبية”. وأكد أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي في وجه أي محاولة لتطويقها أو حصارها. وفي المقابل، أشار البرلمان المصري إلى أن هذا الانتشار يأتي في إطار اتفاقيات ثنائية مع الحكومة الصومالية الشرعية، وأن الهدف منه هو دعم استقرار الصومال، وليس تهديد أي دولة أخرى.
وقالت الباحثة في الشؤون الإفريقية منة صلاح، في حوار خاص لـ”نافذة الشرق”، أنه بالرغم من وجود قوات إثيوبية في نفس البعثة، يرى المسؤولون الإثيوبيون أن التواجد المصري في الصومال قد يؤدي إلى تصعيد التوترات بين القوات الإثيوبية والمصرية، وهو ما يعكس انعدام الثقة القائم بين الطرفين خصوصًا في ظل الخلافات العميقة المتعلقة بسد النهضة وإدارة منابع النيل، بينما لا تعترض إثيوبيا على تواجد قوات صديقة أخرى، فإنها تعتبر التواجد المصري تحديًا سياسيًا واستراتيجيًا قد يزيد من تعقيد المشهد في الصومال، خاصة مع وجود ترتيب عسكري دقيق في المنطقة يشمل حوالي 4000 جندي إثيوبي.
وأضافت أن رؤية الجانب الإثيوبي للدور المصري في الصومال لا يهدف إلى تحقيق الاستقرار بقدر ما يراه تحركًا استراتيجيًا لكسب النفوذ وتأثير مباشر في منطقة مهمة جيوسياسيًا تتشارك فيها إثيوبيا ومصر مصالح متعددة ومتناقضة، حيث تحمّل إثيوبيا القاهرة مسؤولية مضاعفة التوتر بخصوص دورها في الصومال، معتبرة أن هذه الخطوات تأتي في سياق “مناورات سياسية” تسعى لتقويض النفوذ الإثيوبي في القرن الإفريقي، في حين أنها تحاول فرض نفسها كقوة مؤثرة إقليميًا، خاصة في ملفات متشابكة متعددة على رأسها سد النهضة وطريق الوصول إلى البحر الأحمر.
دوافع التحرك المصري وتباين المصالح
كذلك أوضحت أ. منة صلاح أن الوجود العسكري المصري في الصومال لا يمكن اختصاره في كونه مجرد ورقة ضغط مؤقتة في ملف سد النهضة، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تعتمدها القاهرة لإعادة بناء نفوذها وتوسيع حضورها في منطقة القرن الإفريقي الحاسمة، وتدرك مصر أهمية الصومال كدولة ذات موقع استراتيجي يتحكم في طرق الملاحة البحرية عبر البحر الأحمر وبوابة أفريقيا الشرقية، ويشكل تعزيز الأمن والاستقرار فيه عاملًا رئيسًا لحماية المصالح المصرية، لا سيما فيما يتعلق بأمن الموارد المائية وتحديات الأمن الإقليمي.
وأضافت منة صلاح أن التحركات المصرية المتواصلة، بدءًا من توقيع بروتوكولات التعاون العسكري مع الصومال مرورًا بإرسال المعدات وتدريب القوات وانتهاءً بنشر آلاف الجنود ضمن بعثة الاتحاد الأفريقي، تؤكد أن القاهرة تصبو إلى وجود دائم ومستقر في الصومال، وتأتي هذه الخطوة بعد سنوات من الدعم اللوجستي والاستخباراتي والتدريبي، ما يعكس تصميمًا مصريًا على تثبيت حضور عسكري فاعل يقيد النفوذ الإثيوبي ويحقق توازنًا قوى يسمح لمصر بفرض شروطها في القرارات الإقليمية.
البحر الأحمر.. جبهة جديدة للصراع
وفي ذلك الصدد أشارت منة صلاح إلى أن منطقة البحر الأحمر تُعد محورًا استراتيجيًا حساسًا، ولذلك فإن الخشية المصرية من تحولها إلى ساحة جديدة للصراع الإقليمي في ظل تصاعد التوترات لا تعد مجرد فرضية بل واقع وارد ومتصاعد، وتمتد سواحل مصر على البحر الأحمر وهو شريان حيوي للملاحة العالمية وكذلك منطلق استراتيجي للتحكم في المنافذ البحرية الحيوية، ولهذا تلعب القاهرة دورًا نشطًا في تأمين هذه المنطقة من نفوذ القوى المعادية أو التوترات التي قد تنعكس سلبًا على أمنها المائي والاقتصادي، وتتصاعد المخاوف خاصة مع تصاعد النزاع الإقليمي في القرن الإفريقي وتزايد التنافس بين مصر وإثيوبيا والسودان، إلى جانب تنافس قوى دولية مثل السعودية والإمارات وتركيا.
وكما أوضحت أن التحركات العسكرية المصرية في الصومال والبحر الأحمر تعكس في خضمها حرصًا واضحًا على تثبيت حضور قوي وموثوق قادر على منع الأطراف الإقليمية أو الدولية من تحويل البحر الأحمر إلى ساحة صراع مفتوحة تؤثر على استقرار مصر والمنطقة، وتستشعر القاهرة المخاطر الناجمة عن الصراعات المحتملة التي قد تمتد إلى مضيق باب المندب وممرات الملاحة، والتي قد تقوض استقرار الإمدادات والتجارة وتعرض أمنها القومي لمخاطر متعددة، لذا تعد مصر وجودها العسكري والدبلوماسي الممتد في الصومال ودول شرق إفريقيا استراتيجية وقائية لحماية حدودها الحيوية في البحر الأحمر من أي تهديدات محتملة.
توقيت حيوي.. لإرسال قوات مصرية الصومال
تتصدر المشهد السياسي عدة عوامل رئيسة؛ لتوضح سبب اهتمام مصر بإرسال قوات إلى الصومال في هذا التوقيت.
1- الخوف من التطويق الاستراتيجي الإثيوبي:
تخشى مصر من تنامي النفوذ الإثيوبي في منطقة القرن الإفريقي، لاسيما بعد الاتفاقية التي وقعتها إثيوبيا مع أرض الصومال (صوماليلاند)، والتي تمنح أديس أبابا منفذاً بحرياً على البحر الأحمر. يُنظر إلى هذه الخطوة في القاهرة على أنها جزء من استراتيجية إثيوبية أوسع للوصول إلى البحر وتأمين مصالحها التجارية والعسكرية، مما يهدد المصالح المصرية في المنطقة. ولذلك، يمكن اعتبار الوجود المصري في الصومال محاولة لمواجهة هذا التوسع الإثيوبي.
2-استغلال التوتر الإثيوبي-الصومالي:
تشهد العلاقات بين إثيوبيا والصومال توتراً متصاعداً، بسبب الاتفاقية الموقعة مع “صوماليلاند” من جهة، وبسبب وجود قوات إثيوبية على الأراضي الصومالية. وتعتبر الحكومة الصومالية هذا الوجود انتهاكًا لسيادتها. هذا التوتر يمنح مصر فرصة ذهبية للتحالف مع الحكومة الصومالية، التي بدورها تسعى للحصول على دعم عسكري ودبلوماسي لفرض سيادتها وطرد القوات الإثيوبية. ومن هنا، يختلف الوجود المصري الذي يأتي بناءً على طلب رسمي من الحكومة الشرعية، عن الوجود الإثيوبي الذي يُنظر إليه على أنه غير شرعي.
3-ورقة ضغط جديدة في أزمة سد النهضة:
لا يمكن فصل هذه التطورات عن أزمة سد النهضة المستمرة. حيث يُنظر إلى الوجود العسكري المصري في الصومال على أنه ورقة ضغط جديدة تستخدمها القاهرة لإجبار إثيوبيا على العودة إلى طاولة المفاوضات بجدية. من خلال تهديد المصالح الإثيوبية في منطقة القرن الإفريقي، تأمل مصر في إثارة قلق أديس أبابا من أن التصعيد في الصومال يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرارها.
دوافع الاعتراض الإثيوبي على الوجود المصري
تعتبر إثيوبيا أن الوجود العسكري المصري في الصومال يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها البحرية والاستراتيجية.
1-الخوف من التطويق الاستراتيجي:
ترى إثيوبيا أن وجود قوات مصرية في الصومال يمثل خطوة نحو حصار استراتيجي لها. فمصر من الشمال، والسودان من الغرب، ووجود عسكري مصري في الصومال يعني وجود قوات معادية محتملة على حدودها الشرقية والجنوبية. هذا التخوف ينبع من إدراك إثيوبيا أن قدراتها العسكرية البحرية محدودة.
2-تحدي النفوذ الإقليمي:
تعتبر إثيوبيا نفسها القوة المهيمنة في القرن الإفريقي. ولذلك، فإن أي وجود لقوة خارجية كبرى في المنطقة يُنظر إليه على أنه تحدٍ لنفوذها. والوجود المصري، خاصةً في بلد مجاور مثل الصومال، يمثل عائقاً أمام خطط أديس أبابا لتوسيع نفوذها.
مستقبل الأزمة وتأثيرها على المنطقة
من المرجح أن يؤدي دخول مصر إلى الصومال إلى تغيير موازين القوى في المنطقة. فالدعم المصري، خاصة العسكري، يمكن أن يعزز موقف الحكومة الصومالية ضد إثيوبيا، ويقوي يدها في مفاوضاتها المستقبلية. هذا الأمر يمكن أن يؤدي إلى تراجع النفوذ الإثيوبي داخل الصومال.
قد يتسبب هذا التصعيد في زيادة التوتر بين البلدين، مما قد ينعكس على مفاوضات سد النهضة. ومن المحتمل أن تحاول إثيوبيا اللجوء إلى حلفائها الإقليميين مثل الإمارات للضغط على مصر، في حين ستجد القاهرة دعماً من دول مثل جيبوتي وإريتريا التي لها مصالح متضاربة مع إثيوبيا.
في نهاية المطاف، فإن ربط الأزمة في الصومال بأزمة سد النهضة قد يجعل الحل أكثر تعقيدًا. فكل خطوة تصعيدية في أحد الملفين ستؤثر بشكل مباشر على الآخر، مما يرفع من احتمال إنزلاق المنطقة نحو مواجهة أكبر. والسؤال يبقى هل ستنجح الدبلوماسية في نزع فتيل الأزمة، أم أن الصراع على النفوذ سيعيد صياغة خريطة التحالفات في القرن الإفريقي؟