حوار علياء الهوارى
في حربٍ لا تشبه سابقاتها، لم تكن الصواريخ وحدها هي التي مزّقت أوصال غزة، بل استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية هذا العام ركيزةً أخرى من ركائز الوجود الفلسطيني: الثقافة. في عدوانٍ اتّخذ من الوعي هدفًا، سقطت المكتبات والمراكز الثقافية كما تسقط المنازل، وتحوّلت الكتب إلى رماد، والمخطوطات إلى غبار. هل نحن أمام إبادة ثقافية منظمة؟ أم أن المشهد امتداد لما بدأ منذ النكبة؟
في هذا التقرير ، نفتح ملفات “هولوكوست الكتب” في غزة، عبر شهادات قانونيين ومفكرين وسياسيين، نُحلّل الأبعاد القانونية والثقافية لهذا الدمار، ونستعرض كيف تحوّلت الثقافة إلى ساحة حرب.
فى حوار مع كبار السياسين الفلسطينين عن حرق جميع الكتب النادره.
كيف تصف حجم الدمار الثقافي الذي طال غزة خلال الحرب الأخيرة؟
يقول الأساتذ حسن محمود، محامي وناشط حقوقي: “ما جرى في غزة هو كارثة حضارية تمثّل إبادة ثقافية مكتملة الأركان. قُصفت المكتبات العامة والخاصة، المتاحف، المسارح، ودُور الأرشيف. أكثر من 99% من التراث الثقافي تعرّض للدمار أو الضرر.”
أما الدكتور ماهر صافي، السياسي الفلسطيني، فيضيف: “تم تدمير أكثر من 88% من المؤسسات التعليمية، بالإضافة إلى المتحف الوطني في قصر الباشا الذي كان يضم عشرات الآلاف من القطع الأثرية.”
هل كان التدمير عشوائيًا أم ممنهجًا؟
يرى المختصان أن ما حدث هو استهداف ممنهج ومدروس. يوضح صافي: “المكتبات كانت تحتوي على وثائق ذات أهمية ثقافية، واستهدافها تم بشكل متعمّد.”
هل يمكن اعتبار ما حدث إبادة ثقافية؟ وما الفرق بينها وبين الإبادة المادية؟
يردّ صافي: “الإبادة الثقافية تستهدف الذاكرة، التراث، والوعي، بينما المادية تدمّر البنية التحتية. إسرائيل مزجت بين الاثنين.” ويضيف حسن محمود أن “الإبادة الثقافية تسلب الأجيال القادمة حقّها في الوصول إلى تاريخها.”
لماذا تُخيف الثقافة إسرائيل؟
يوضح صافي: “الكتب تعزّز الهوية الوطنية والوعي، وتُهدد المشروع الاستيطاني، لذلك تُعتبر تهديدًا أمنيًا من وجهة نظر الاحتلال.”
هل يتعامل الاحتلال مع الثقافة كخطر أمني؟
يتفق الجميع أن الاحتلال يرى في الثقافة الفلسطينية ساحة مواجهة خطرة، ويستهدف المؤسسات الثقافية والفنية لتقويض الوعي الوطني.
هل يسعى الاحتلال لخلق جيل بلا ذاكرة؟
“نعم”، يقول دكتور ماهر صافي. “محو الذاكرة الجماعية هدف استراتيجي يسعى الاحتلال إليه منذ 1948.” ويضيف حسن محمود: “استمرار استهداف الثقافة يقطع الفلسطيني عن جذوره.”
ما أكثر المؤسسات الثقافية التي أحزنك فقدانها؟
أشار صافي إلى تدمير المتحف الوطني في قصر الباشا، مكتبة بلدية غزة، ومسرح القصبة، وهي جميعًا كانت رموزًا للثقافة والمقاومة الناعمة.
هل هناك كتب لا يمكن تعويضها؟
يقول حسن محمود: “النسخ الأصلية للمخطوطات لا تُعوّض، فهي تحمل هوية وتاريخًا فريدًا.”
كم تحتاج غزة لاستعادة جزء من تراثها؟
“نحن بحاجة إلى جهد زمني يمتد لعشر سنوات على الأقل”، يوضح محمود، “بدءًا بجمع ما تبقّى وبناء قاعدة بيانات ثقافية.”
كيف أثّر تدمير المكتبات على الحياة الأكاديمية؟
“فقد الطلبة مصادرهم العلمية، مشاريعهم، وأطروحاتهم”، يقول محمود، “كما فقدوا بيئة التفكير والدراسة.”
ما البدائل المتاحة؟
“الأساتذة يسجّلون محاضراتهم من الخيام، ويعتمدون على ملخصات تُرفع إلكترونيًا”، يشرح، “بينما الطلبة يشحنون أجهزتهم من محطات تعمل بالطاقة الشمسية.”
هل هناك مبادرات لإنقاذ ما تبقى؟
“حتى اللحظة يصعب تنفيذ شيء، لكن هناك خطط لرقمنة المعرفة وإعداد منصات تعليمية.”
هل ما يحدث اليوم مرتبط بما جرى عام 1948؟
“نعم”، يجيب حسن محمود، “ففي النكبة سُرقت الكتب والمخطوطات، واليوم تُقصف المكتبات.. الهدف واحد: قطع الفلسطيني عن ذاكرته.”
هل هناك سياسة طويلة المدى لمحو الهوية الثقافية؟
“بالتأكيد”، يقول ماهر صافي، “إسرائيل تشوّه المناهج وتُهمّش اللغة العربية وتفرض روايتها، وهذا أخطر من القصف.”
لو كنت تملك إنقاذ كتاب واحد، ماذا سيكون؟
يروي حسن محمود قصة مؤثرة: “عندما عدت إلى منزلي، وجدت تحت الركام كتابين: أحدهما عن حقوق الإنسان، والآخر عن الزعيم ياسر عرفات.. لم تكن مصادفة، بل رمزًا لغصن الزيتون والبندقية.”
ما الأبعاد القانونية لهذه الممارسات؟
“ما يقوم به الاحتلال يُعد جريمة حرب ذات بُعد ثقافي”، يشرح محمود، “يمكن رفعها لمحكمة الجنايات الدولية وفق اتفاقيات لاهاي وجنيف.”
غزة لم تخسر فقط حجارتها، بل جزءًا كبيرًا من ذاكرتها ووعيها. في مواجهة آلة القصف، قاومت الكتب، وأصرّت بعض الصفحات على النجاة. ما يحدث اليوم ليس مجرّد تدمير، بل محاولة لمحو تاريخ شعبٍ كامل. وبين الرماد، يظل صوت الثقافة أقوى من الصمت، وأصدق من الضجيج.